«إسرائيل دولة تستمد أسباب بقائها من الحروب»، هذه ليست نظرية يجري العمل على إثباتها. فتل أبيب ترسخها كل عامين أو أربعة على أكثر تقدير، ويمكن رصد ذلك منذ عشر سنوات. أي من حرب 2006 على لبنان ثم 2008 في غزة، وبعدها حرب 2012، واليوم 2014. هذه الحروب ظلت تأخذ بعداً تنازلياً في مدتها؛ ففي لبنان استمرت 33 يوماً، مقابل 21 يوماً في غزة (قبل ست سنوات)، و8 أيام قبل عامين، ولا يعلم بعد طبيعة المعركة الجارية.
في هذا الإطار، من المهم الالتفات إلى أن التنازل الزمني المذكور مرهون بالتطورات الإقليمية. ففي 2006 و2008 لم يكن يشغل الأميركيين والأوروبيين في المنطقة شيء كـ«الربيع العربي» الذي عجّل في انتهاء الحرب الثانية في القطاع، وجعل واشنطن تضغط على تل أبيب لوقف عدوانها بعد أن حوصرت الأخيرة في موقف صعب، ثم خرجت القاهرة في واجهة الاتفاق، علماً بأنها لا تستطيع التأثير في الإسرائيليين لتوقيع تهدئة بشروط تفصيلية وكبيرة مثلما فعل الأميركي الذي أشرف على نص الهدنة باللغة الإنكليزية.


لا يمكن اقتطاع المشهد الفلسطيني من السياق العربي أو التسوية مع إيران

بناءً على ذلك، ليس من السهل التخيّل أن دولة ترى أمنها القومي عبر شن حروب استباقية قررت خوض تصعيد كبير هذا العام من دون النظر في الظرف المحيط، وهي أيضاً تعقد عدداً لا بأس به من المؤتمرات الأمنية والسياسية لدراسة التحولات في الدول العربية المحيطة بها وتأثير ذلك في مستقبلها المنظور.
الحرب الجارية تأتي بعدما استنفد ما يسمى «الربيع العربي» دوره، وأعيد ترتيب حكومات ودول من دون أن يمس أحد طريقة التعاطي مع الاحتلال ووجوده. كذلك تأتي بالتزامن مع مشروع تقسيم كبير عنوانه إقامة «الخلافة» عبْر سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على أجزاء من سوريا والعراق ومنها نقاط تماس مع فلسطين المحتلة، علماً بأن هذا التنظيم لا يبدي أي ميول للحرب ضد إسرائيل، بل هو يؤخر هذه القضية إلى ما بعد «إقامة الخلافة».
ماذا يعني ذلك؟ ولماذا جاء التصعيد الفلسطيني كبيراً في وقت قصير؟ وهل نضجت ظروف الحرب داخلياً في فلسطين دون ارتباط بالجغرافيا والسياسة المحيطة؟ يمكن أن تتضح الإجابات بدقة بعد انتهاء الحرب، لكن يجب التركيز الآن على الموقف الأميركي من هذه الحرب والتقاط الإشارات من التحركات على هذا الصعيد. ولكن المعلوم أنه إذا كان استمرار الحرب الإسرائيلية سيؤثر بطريقة أو أخرى في الخطوات الدولية في المنطقة، فإن سقفها الزمني لن يكون طويلاً، لأنه لا يمكن اقتطاع المشهد الفلسطيني من السياق العربي أو التسوية مع إيران، أو حتى اعتبار جزء من رد المقاومة، وهو في الأساس دفاع مشروع، على أنه فعل مواز لخطوات التقسيم والتفتيت وإعلان الكيانات والدول الطائفية والعرقية، لأن السياسة تحكم تحريك الأوراق كلها في وقت الأزمات. كذلك، ليس من الجيد إعادة تذكير الشارع العربي، المشغول بنفسه، بالقضية المركزية في فلسطين، وبدت آثار ذلك واضحة في الأردن ومصر، وإن كانت حكومات تلك الدولة أقدمت على خطوات تمتص غضب الشارع لكن زيادة وتيرة المجازر الإسرائيلية تصعد الموقف الشعبي.
في المقابل، يمكن أن تكون هذه الموجة الكبيرة من التصعيد مدخلاً لإعادة تشكيل الإقليم، وذلك عبر معطيين، الأول هو الحديث بقوة عن إعادة مجرى التواصل سياسياً بين إيران وحركة «حماس» بصورة مباشرة وتكرار الاتصالات على مدار اليوم والأمس من دون الكشف عن فحوى هذه الاتصالات، لكن الواضح أن هناك مجالاً لإعادة العلاقة بناءً على الظرف الصعب ضمن سقف محدود. أما المعطى الثاني، فهو التسريبات الإعلامية العبرية التي تشير إلى أن الصواريخ التي سقطت قرب حيفا والخضيرة خلال اليومين الماضيين من صناعة سورية ولم تتمكن القبة الحديدية من التصدي لها، ما يستدعي حالة الاتهام المتكرر لدمشق بالضلوع في دعم المقاومة، وهو ما يعطي المبرر إسرائيلياً لأي ضربة في الأراضي السورية لاحقاً.
في كل الأحوال، هي الحرب الثانية في ولاية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وكان في الحرب السابقة مع وزير الدفاع إيهود باراك الذي استقال إثرها، وكان معه أيضاً وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان الذي انسحب من ائتلاف سياسي جمعهما، مع بقائه في الحقيبة الوزارية، لكن ذلك جاء قبل اشتعال هذه الحرب بصورتها الكبيرة. هذه التطورات في الساحة السياسية الإسرائيلية كلها وثقل الضغط على نتنياهو عامل حاسم في الاختيار بين ترك المنطقة تفتت في مقابل احتواء المشهد الفلسطيني حتى لا يعود إلى الواجهة في غير وقته أميركياً.