غزة | لا شيء. أصابعي برغم تيبسها تركض بسرعة على الكيبورد، تبحث عن أيّة أنباء تتعلّق بالهدنة، أي حديث، مشاورات، همس، اشارة من هنا أو من هناك، لكن لا شيء. السيد غوغل لا يُساعد سوى على إظهار المزيد من الوقفات التضامنية الدولية في اي بحث تحت اسم غزة. المزيد من اللافتات التي تزيّن اسم غزة، الشعارت المدويّة على مسمع من عالم يُمارس هوايته هذه الأيّام بالقدرة على البحلقة لأطول وقت ممكن في المجازر التي ترتكب هنا، من دون اي رد فعل جدي غير البحلقة نفسها! تجعلني الكتابة دون أن أقصد فعلًا، اتخفف من وطأة الضغط النفسي، وخصوصًا بعد ليلة أخرى «حامية الوطيس». قد لا يكون هذا الوصف بليغا، لكني لن أبحث عن تعبير آخر من اجل البلاغة! ربما قرفا من قصور اللغة، او ضجرا مما يُكتب، أسفًا وشجبًا واحتجاجا!
مرّت الليلة الماضية وكان الموت ضيفًا في المكان، ينتظر المغادرة مع رحيل الطائرات المعادية، كلمّا فكّر الطيّار الإسرائيلي في أخذ «برايك»، ربمّا لتناول ساندويتشاته، للذهاب للتواليت، لطمأنة أحبائه إلى كونه بخير.. سمح ذلك للفلسطيني بأن يحيا.. وأعجب منّي كيف يمكنني المزاح في أجواء كهذه تمتزج فيها الدماء برائحة الإسمنت وغبار البارود والملابس الممزقة والعيون المفتوحة لآخر مرة، لا ينهي الموقت قلقها من القذائف الصاروخية التي قصفت حتى المقابر في الحرب الثانية عام 2008. حتى الحديث عن خوف وهلع شديدين أحسهما طوال الوقت، غير ممكن. ربما خجًلا من أرواح الشهداء التي تصعد الواحدة وراء الأخرى، لم يعد فرز المشاعر على طاولة النقاش مجديًا، حتى في كتابة حكايات الحرب، مثلما توصي صديقة اعلامية بذلك عبر حسابها الفيسبوكي.

الحرب برمتها
لا تمنع أمي من التفكير في طبق الفطور الرئيسي


بين توثيق ما يجري على الأرض والمساهمة في فتح السوق العالمية للتدوين لمناسبة بدء الموسم الثالث للدماء في غزة، نُصبح أقرب إلى الجنون منه لتحمّل مسؤولية ثقيلة في نقل الصورة إلى العالم، لأُبحلق أنا الأخرى في سماء اليوم الجديد، ومن الزرقة أملأ عيني،غير راغبة في مشاهدة المزيد من صور المجازر. ليس لأنّها مؤذية مثلما تداول البعض، ناصحين المتابعين باختيار صور أخف أثرًا على المتلقي، خشية أن تُمس القيمة الانسانية لمشاعره، وبالفعل في اليوم الثالث بدأ ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي في انتقاء صور تضجّ بالحياة رغم الموت والدمار: صورة لأطفال يستحمّون على أنقاض بيوتهم المهدمّة، أم تزغرد وهي تودّع طفلها، شهداء يضحكون في صور لهم قبل رحيلهم، صور تذكارية مع قذائف صاروخية لمصورين يوثقون الحدث... وهلمّ جرا.
الطريف في الحكاية، أنّ الحرب برمتها لا تمنع أمي من التفكير منذ الصباح الباكر في طبق الفطور الرئيسي، والدخول في جدال طويل عريض كأنّ «طبخة اليوم» هي منفذها الوحيد لـ«فشّ الغل»، برغم أنّها عادتها التي لم تتغير منذ أعوام طويلة، لكنّها تميل أكثر هذه الأيّام للجدل في اختيار الوجبات، ربما لتخفف عن اخوتي ما يحدث ليلًا نهارًا !
حتى إنّني أجد نفسي كثيرًا ما أؤمن بأي كلمة تقولها، خلاف ما يحدث غالبًا، ذلك أنّها كانت الأولى بكل جدارة التي التقط سمعها الملتصق بالمذياع خبر اتفاق التهدئة عام 2008، وربما تفعل هذه المرّة أيضًا!