(1)

يتيمةٌ هي غزّة. لا أب لها ولا أم. وحيدةٌ من دون أي معين. يفكر آخرون بأنها فنت منذ سنين عدّة؛ وحدها الصواريخ التي تنير المكان تكسر صمت وحدتها، وتخبر بأن هذه المدينة لا تزال تنبض كثيراً.

(2)


لا يعرف كثيرون أنَّ غزّة محاصرة؛ أن أهل غزّة محاصرون. لا يستطيعون اخفاء أحبتهم حيثما يريدون حينما يريدون. فقلب الأم الحنون لا يكفي كي تقفله على أبنائها لتحميهم من هول القصف. ليس في غزّة مخارج كي يرحل منها من لا يريد الموت تحت القصف الوحشي. يعرف الصهيوني ذلك، ويقتلهم. بكل دماء العالم الباردة يقتلهم، وتتفرّج بقية الكوكب على الأمر. ممتعٌ هو دمنا وصراخنا وبقية الروح نفرشها كل مرّة. رخيصٌ هو دمنا.

(3)


لا تشبه غزّة أياً من المدن، هي حتى لا تشبه مدينتك المفضّلة. ففي غزّة لا توجد مراكز ترفيه وسياحة وابهار. في غزّة لا شيء مبهرٌ غير البشر. حتى البحر لا يشبه بحر المدن الأخرى. ليس هناك قصة أسرع مما في غزّة تحكي عن شابٍ وفتاة أحبا بعضهما كثيراً وتمنيا اللقاء، فكان الوعد. بعد أقل من شهر سكنا في قبرين متجاورين.

(4)



الأصوات في غزة تقطّع الليل كما الخبز الإفرنجي. خذ قطعةً وافرح، أو مت. في غزة كلا الأمرين وافر بشدة وكثرة.

(5)


يتنقل المقاومون في غزّة حاملين معهم أحلام الجميع. هل يمكن أن يأخذ حلمٌ شكل صاروخ؟ ريشةٌ هي دعساتهم على الأرض. لا يوقظون أحداً، بعض الأحلام أطول من غيرها. أهل غزّة يعرفون عن الأحلام أكثر مما يصرحون.

(6)


كيف يحارب الأمير التنين في غزّة؟ كيف شكل بندقيته؟ وهل تبقى الأميرة حيةً تحت هذا القصف؟ ماذا تفعل سندريلا إذا لم يبق هناك حفلٌ بعد الثانية عشرة؟ من سيحضر الحفل إذا غادر معظم الأحبة هذي الديار؟


(7)


ترتدي غزّة اللون القاني كلما حان الوقت. تكرهه ولا تحبّه البتة، لكنه الأقرب للحقيقة. كيف يكون الحب إلا قانياً. كيف يكون الفراق إلا قانياً. كيف يكون كل شيءٍ إلا قانياً. الأيام التي تجيء في غزّة لا تجيء إلا قانية. القاني هو أكثر الألوان وآخرها.

(8)


يرقد عند قدمي غزّة البحر؛ يلامسها ولا تعترف أنّها تحبه. لكن القاتل لا يرضيه الحب. يعريه الحب، يخدشه، يمزّقه، يجعل من شياطينه سوطاً يضربه كل لحظة. القاتل يقطع الماء عن غزّة والهواء. يشعره الموت بالزهو والنصر؛ لكنه لا يعرف أبداً أن الأفكار لا تموت.

(9)


لغزّة أنشودةٌ واحدةٌ تشبه كل الأغاني القديمة، حبيب يذهب إلى الحقل، وحبيبةٌ تنتظر عودته. لربما لن يعود. وهي لربما ستظل تنتظر. لا تغيّر الأصوات الأخرى من القصة شيئاً ولا الأبطال الآخرون. فالنهايات الحزينة كما النهايات المفرحة، قد تكون مريحةً أيضاً.

(10)


غزة طفلة الدهر المتمردة دائماً ولطالما عاقبها الجميع على ذلك التمرّد. هي الفتاة التي رفضت عريساً أحضره والدها. الأنثى التي رفضت قوانين القبيلة. الصبية الحسناء التي ترغب بالزواج ممن تحب. غزّة كل بنات الدنيا في امرأة.

(11)


غزّة تودّع أبناءها كل يوم، وتنتظر عودتهم كل مساء. هي حالة الشوق الذي لا ينتهي عند الكلام. لكن لغزّة أبناءٌ لا يعرفون من الهدأة شيئاً. يشعلون قلوبهم يضعونها على متن صواريخ، ويطلقونها لتزيّن السماء. لا يحتاج القلب في غزّة لكثير كي يضيء، يحتاج فقط إلى بضع وقودٍ وقليلٍ من أمل.

(12)


للأطفال في غزّة شيءٌ من حلمٍ إلهي. ينامون بهناءةٍ عجيبة، الصوت حولهم يوقظ الأموات، الضجة زئيرٌ وحشي صاخب، وهم يكملون نومهم من دون حوار. قد يكون النوم هذا تدريباً لموتٍ سيجيءُ على عجل بلا انتظار. فوق كل هذا يبقى قليلٌ من لعبٍ وأصوات ضحكاتٍ بعيدة لا تنسى.

(13)


يضيق العالم بالناس في غزة. هي منسيةٌ تماماً حين لا تكون تحت الموت أو فوقه. حينما لا تنزف لا يعرف أحدٌ أنها هناك. وحين النزف؟ يتباهى المتناقلون بصور دمها يسيل. ماذا يريد الآخرون مني؟ تصرخ غزّة وحيدةً. صور وبضع ذكريات، دموع كثيرة ودم أكثر. سأعطي، هي عادة المدن الساحلية الجميلة، هي عادة الحسناوات المقاومات. سأعطي، سأعطي أكثر بعد.
تهاني نصار