أعلام وألوان والكثير من المحتشدين؛ يتذكّر كل فلسطيني ثبات وهدوء الأسير المحرر والمبعد إلى سوريا أحمد أبو السعود. كان التلفزيون الرسمي السوري ينقل لحظات وصول 15 من الأسرى الفلسطينيين المحررين في عملية وفاء الأحرار عام 2011 إلى دمشق، كان أبو السعود من بينهم، عيناه كانتا تتفتحان بأقصى ما استطاعتا، وكأنه يحاول بهما أن يغب كل ما يستطيع من ألوان الحياة خارج الأسر. كان متماسكاً، وظهرت على وجهه علامات النحافة، ربما بسبب الإضراب الذي كان ينفذه قبل خروجه، أو ربما هي حياة الأسر. بعد 11 عاماً على نيل الحرية، ما زال أبو السعود، ابن بلدة بيت فوريك في نابلس، يتابع عمله النضالي ضمن صفوف «الجبهة الشعبية» في سوريا.

السجن الأول وحتمية النضال
«دخولي إلى سجون الاحتلال أوائل عام 1980، كان نقطة حاسمة وفاصلة في حياتي»، بهذه الكلمات يروي أحمد أبو السعود لـ «الأخبار» عن التّحوّل الذي حدث في حياته بعد تجربة الاعتقال التي خلقت لديه الرغبة والاستعداد للالتحاق بالعمل النضالي، ويضيف: «كنت أسمع من قبل عن قساوة أساليب التحقيق، لكن ليس كما كانت على أرض الواقع. دخلت التحقيق، وتعرضت خلاله إلى كل وسائل العنف والتعذيب، وهذا ولّد لدي مزيداً من الحنق، وأصبح تفكيري يتركز على كيفية التعامل ضد هذا الظلم ليكون قراري بأن أنذر نفسي للعمل ضد الاحتلال مهما كلفني الأمر».
قضى أبو السعود داخل سجون الاحتلال مدة قاربت الـ 27 عاماً. فالاعتقال الأول كان لمدة عشرين شهراً بسبب نشاطات فردية غير منظمة ضد الاحتلال، لاقى فيها الشاب النابلسي الذي يحلم بمواسم اللوز وقطف الزيتون، وسائل تعذيب العدو الهمجية من شتى الأنواع والأشكال، فكرّست تلك التجربة لديه الإيمان بحتمية النضال المسلح والتحق بالعمل العسكري السّري في الضفة الغربية، ونفذ عمليات ضد جنود الاحتلال وعملائه، فتم اعتقاله للمرة ثانية عام 1985 وخاض خلالها فترة تحقيق، واعتقل مرة ثالثة العام 1987 حيث حُكم عليه بالسجن مدى الحياة حتى خرج بعملية التبادل بين المقاومة والاحتلال في صفقة «وفاء الأحرار»، وأبعد إلى سوريا.
ينحدر أبو السعود (66 سنة) من عائلة نضالية قدمت أبناءها لنصرة قضية فلسطين، فتعرض إخوته الستة للأسر في سجون الاحتلال، فيما استشهد أخوه الكبير الذي كان ينتمي إلى «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، جراء استهدافه من قبل الطائرات الصهيونية في لبنان عام 1981، كما تم إبعاد أخيه الأصغر بعد اعتقاله مرات عدة خلال الاشتباكات مع جنود الاحتلال في الضفة، وعليه، لعبت البيئة التي ترعرع ونشأ فيها أبو السعود دوراً أساسياً في دفعه ليكون جزءاً من ثقافة مقاومة الاحتلال.

العمل السري
في عام 1982، انخرط أبو السعود في العمل العسكري والمنظم ضد الاحتلال، عبر مجموعة سريّة نجحت على مدى خمسة أعوام بتنفيذ العديد من العمليات ضد الجنود الإسرائيليين وعملاء الاحتلال في الضفة الغربية ونابلس، فنفذ بين 1982 و1987 عدة عمليات نوعية كتصفية ضابط صهيوني وجرح آخر، يقول أبو السعود «نجحنا في هذا العمل بحكمة الرفاق السريين الذين يحافظون على المبادئ السّرية. ومن الخبرة التي اكتسبتها خلال تجربتي في السجن»، حافظ أحمد على سريّة العمليات بشكل مطلق حتى مع الأهل والأصدقاء، وكان يتحين الفرص لتنفيذ مهامه من دون علم أحد: «كنت أعمل مع شريكي في البناء طوال النهار، وكنت أذهب للقاء أحد الرفاق لأعطيه السلاح، فكنت أغطي على عملي السري، بهذه الطريقة». كانت آخر عملية له في جنين «في آخر عملية تم كشف أمرنا أنا وصديقي في السيارة وتم اعتقالنا معاً وأمضينا خمسة وعشرين سنة في السجن».

«يمّا المهم تروح وبعدني طيبة»
مرّت سنوات الاعتقال الثاني طويلة على أبو السعود: «دخلت السجن المرة الثانية وكنت متزوجاً ولدي خمسة أبناء وبنات أصبحوا شباباً وأنا أقبع في سجون الاحتلال». عاش أبو السعود في سجنه محطات لا تنسى، فقد أمضى عمراً في السجن، فاعتقل وهو ابن 30 سنة، وخرج من السجن بعمر الـ 55 سنة فقد خلال تلك السنوات والدته. يتحدث أبو السعود عن أصعب تجارب الأسر: «والدتي كانت قوية بصحة جيدة وتزورني باستمرار، لكن بعدما تعبت أصبحت تزورني كل سنة مرة، كانت تقول لي دائماً يما المهم تروح وبعدني طيبة، وكنت أقول لها انتبهي لصحتك منيح وحيصير لي بدك ياه». خلال فترة الانتفاضة الثانية لم تزره والدته، بسبب منع الزيارات، ثم توفيت، يقول عن تلك اللحظة: «لم تتحقق رغبتها، توفيت رحمها الله، ومثلي الكثير ممن فقد أباه أو أمه أو أحد أحبائه وهو داخل السجن، فهذه من الأحداث المحزنة التي حدثت خلال فترة الاعتقال وهذا يجعل من السجن أكثر ضيقاً».
أمّا عن أكثر اللحظات التي تبعث على الأمل، فيستذكر أبو السعود انتفاضة الحجارة بين عامي 1987 و1988 حيث كان حديث الاعتقال، لكن بالنسبة لمعتقلين آخرين مرَّ على سجنهم 20 سنة وأكثر، كانت الانتفاضة صدمة ساحرة لهم، أن يستطيع الشعب الفلسطيني كسر الحال القائم، والتمرّد على الاحتلال، والقيام بثورة شعبية عارمة، شارك فيها الكبار والصغار، والشباب والشابات، يصف تلك الأيام: «لقد عشنا أجواء الثورة داخل السجن، أصبح المعتقلون يساعدون في الانتفاضة من خلال كتابة البيانات وتسريب التسجيلات الصوتية والرسائل التي تشحن الثوار، كنّا نشعر بأننا نشارك بهذه الانتفاضة، كما كنا نسجل أسماءنا للنزول إلى المستشفيات من أجل مقابلة المعتقلين الجدد، ولنعرفهم بالواقع قبل دخولهم السجن، وكان لذلك أثر كبير في تهيئتهم لمعرفة ما الذي ينتظرهم».

لم أفك إضرابي إلا في دمشق
تحرّر أبو السعود من سجون الاحتلال في الـ 18 من تشرين الثاني عام 2011، وكان حينها متزعماً لإضراب عن الطعام: «كان الهدف الأول والأساسي للإضراب إنهاء العزل عن زملائنا، فهناك بعض المعتقلين عزلوا في السجون الانفرادية منذ 21 و17 عاماً». «كنت المسؤول الأول للإضراب، والمحاور مع إدارة السجون الصهاينة، لذلك عزلوني على الفور وبدأوا الضغط علي، لكنني رفضت التراجع عن الإضراب إلا بعد تنفيذ شروطنا البسيطة وهي إخراج المعزولين».
لم يكن يعلم أبو السعود بصفقة تبادل الأسرى، وكانت أول مرة يسمع عنها في عيادة السجن: «أثناء الإضراب كانوا ينزلونا للعيادة لإجراء الفحوصات، كانت هناك طبيبة سألتني: ألم توقف إضرابك بعد؟ لن يحدث التبادل اليوم؟ سمعت ذلك في الأخبار». لم يصدق كلامها وظن أن الموضوع قد يكون فخاً لحثه على فك الإضراب: «كان في الزنزانة المجاورة شخص مدني، فقلت له، اسأل عن الخبر، فأكده لي بعد نحو ساعتين، ثم نقلني الصهاينة إلى معتقل النقب وأنا حتى تلك اللحظة، لم أكن أعلم أنه سيتم الإفراج عني».
أمّا عن إنهاء الإضراب، فيقول: «لم أتخيّل أن أخرج من المعتقل وأنا ما زلت مضرباً، زملائي بقوا مضربين، وخرجوا ولم أتمكن من رؤيتهم في ما بعد! توقفت عن الإضراب في سوريا، بعدما وصلت إلى دمشق، حيث كان الإبعاد شرطاً للإفراج عنا، كانت مشاعري غير عادية فأنا لم أكن أعلم أنني سأخرج وأنني مبعد».
لحظات الوداع الأخيرة لفلسطين، يتحدّث عنها أبو السعود بحرقة قلب ولمعة في عيونه: «قبل أن أخرج بيوم، أخبرني أحد الزملاء أننا سنخرج سوياً، وبعد ساعة طلبني مندوب اللجنة الدولية للصليب الأحمر لأخرج، فسررت. خرجنا وكانت الصدمة بعدما صعدنا إلى الباص المصري من سجن النقب، عندما اقتربنا من الحدود كان جميع الزملاء يشتمون الجنود على الحدود إلا أنا، لم أستوعب ولم أصدق أني لن أرى فلسطين مرة أخرى، أمضيت 55 عاماً من عمري فيها، كنت حزيناً جداً وكانت تلك أصعب اللحظات».

دمشق المنفى المختار
بعد التحرير، توجّه أبو السعود، برفقة 14 أسيراً وأسيرة، إلى سوريا، وكانت تلك الوجهة خياره، يلقي نظرة إلى خريطة الجغرافيا السورية التي علقها داخل مكتبه «أنا اخترت سوريا! خيروني إخوة في حركة حماس بين ثلاث دول، فقلت لهم سوريا، وعندما خرجوا منها بعد اندلاع الحرب، عرضوا علي الذهاب معهم إلى قطر، لكنني رفضت ذلك، هنا أعيش مع أبناء شعبي في المخيمات وأقربائي». يشرح عن لحظات وصوله: «كان الاستقبال رائعاً في الحافلة والمطار وحتى الشوارع كان لها وقع في نفسي، وعندما رأيتها تملكني ارتياح، لم أشعر أنني مبعد بل شعرت أنني في وطني، ثم انتقلت إلى مخيم اليرموك، وعشت سنة هناك، ثم خرجت منه بعد الأحداث في اليرموك».

نابلس شقيقة دمشق
رغم أنه عاش سنة واحدة فيه، فإن مخيم اليرموك ترك أثراً واضحاً لديه: «كنت أسكن في شارع الـ 15، وأخرج للمشي في شارع الـ 30 في الصباح الباكر ثم شارع فلسطين، كنت أمشي لما يقارب الساعة، وأتجول في جميع حارات المخيم، لدرجة أنني عرفت كل حاراته وشوارعه رغم كبر مساحته؛ أنا من عشاق المخيم».
جال أبو السعود أيضاً في الحواري الشامية، وتعلق بشوارع دمشق، بخاصة المدينة القديمة: «لأحيائها وقع خاص، عبق التاريخ في سوق الحميدية والجامع الأموي والشوارع القديمة، أفكر كم مرت أجيال وحروب على كل زاوية في دمشق، لكنها كانت تستجمع قواها في كل مرة، كما هناك تقاطع وتشابه كبير بين دمشق ونابلس، فكانوا يطلقون على نابلس قديماً، الشام الصغرى لما بين الحارات القديمة في المدينتين من تشابه».

متابعة النضال
أصدر أبو السعود بعد تحرّره من سجون الاحتلال كتاباً بعنوان «ومضات من خلف القضبان»، وعن تلك التجربة يحدّثنا: «في السنوات الأخيرة قبل التّحرر وتحديداً عام 2007 كان هناك شباب في الانتفاضة يسألوني دوماً عن السجن، ويطالبونني بكتابة تجربتي في الأسر، لأنها ليست ملكي لوحدي إنما ملك الجميع، فكتبت عن تجربتي الشخصية ولكنني لم أنجح، فكتبت عن التجربة بشكل عام، وقائع وأحداث وتطورات ونشاطات الحركة الوطنية في الأسر، وحياة الاعتقال، من مختلف جوانبها، إضافة إلى مقترحات تحاول وضع الحلول المناسبة لمناحي حياة الاعتقال كافة».

القضية في أيدٍ أمينة
وعن طريق التحرير، يرى أبو السعود أن العمل المسلح هو الأساس الأول، إلى جانب العمل الجماهيري والنقابي والاجتماعي والتنظيمي وكل أشكال العمل التي توحد الأمة خلف الشعب، باعتبار الشعب الفلسطيني رأس الحربة في مواجهة الاحتلال: «إن استقطاب أحرار العالم لدعمنا، يحتاج إلى الكلمة، والدليل الأكبر على ذلك غسان كنفاني ومحمود درويش وتوفيق زيّاد وغيرهم». يرى أن الجانب الفكري والثقافي مهم جداً، لكن الظروف التي مرّت وتمرّ بها القضية الفلسطينية تعرقل هذه الجهود، والوضع العربي العام، وحتى الوضع الدولي كله ضد القضية الفلسطينية: «نحن كشعب فلسطيني متمسكون بقضيتنا، ومقتنعون أن فلسطين عربية، وهي حقنا كفلسطينيين وعرب ولا بدَّ من استعادتها»، ويؤكد على استمرار «المواجهة مع الاحتلال».
يختم حديثه إلى «الأخبار» بالقول: «قبلي كان هناك جيش كبير من الفدائيين، وسيستمر، وهذه الظاهرة لم ولن تتوقف حتى يصبح لدينا جيش مقاوم مسلح منظم لمواجهة العدو الإسرائيلي بكل ما يحمل من قوة. عندما أرى أشخاصاً مثل إبراهيم النابلسي وإسلام صبوح الصغير الذي استشهد معهم، أشعر بالفخر، وأن القضية في أياد أمينة، وأن الراية مرفوعة ومستمرة، مهما كان هناك تراجع من خلال اتفاق أوسلو، ومهما كان هناك انقسام، فلذلك نحن مطمئنون على الهدف البعيد، تحرير فلسطين فهو راسخ بداخلنا وبداخل الكثيرين من أبناء الأمة العربية وغير العرب».