في هذه الليلة، لا شيء يشبه أياً منا. نحن الذين يبيت الحزن عندنا كما لو أنه فرد من العائلة. سكتنا، بات كل ما فينا بانتظار الساعة التاسعة مساء، ماذا تعني التاسعة مساء للآخرين؟ لربما لا تعني شيئاً. لغير المقاومين، لن يفهم احد لوعتنا وشوقنا ونحن ننتظر التاسعة مساء مترقبين أصواتاً مخيفة باتت محببةً بشكلٍ مفاجئ. «السايرن» أو صافرات الإنذار، المأخوذ اسمها من اسطورة حوريات البحر اللواتي كن يغنين للبحارة التائهين ليجذبنهم إلى الغرق، أصبحت مرغوبة فجأة وبشدة. عند التاسعة زغردت صواريخ المقاومة. لو متنا بعدها، لم نكن لنتضايق أبداً.
قبل التاسعة. منذ سنين عدّة وبالتحديد عام 2006، كان سماحة السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله يخطب عبر المذياع: «الآن في عرض البحر، البارجة الحربية الصهيونية التي اعتدت على أهلنا... انظروا إليها تحترق وتغرق». يختفي الصوت من عقلنا ويبقى فقط صوت صراخ الناس في الشارع والبهجة الكبيرة التي عمّت شوارع مدينة بيروت. أتذكّر أنني أطليت على الشارع قرب منطقة الملعب البلدي وشاهدت أناساً يرقصون فرحاً، ونساء يزغردن من شرفات المنازل. كان الفرح لمدنٍ لا تعرف الفرح قريباً لا بل لصيقاً. هكذا هي الانتصارات. لو متنا كلّنا ساعتها، لم يكن أحدٌ ليتضايق.
قبل التاسعة. تحتاج المقاومة إلى أن تؤكد لشعبها أنها على العهد. هكذا حال الأمّة بشكلٍ دائم، لا مقاومة تخسر أو تربح بشكلٍ دائم، فالمقاومة ميزتها أنّها «تقاوم» وتبقى لتقاوم مرةً أخرى، هي تلك الشوكة في خاصرة الغاصب، المحتل. هي صراعٌ مستمرٌ وصعبٌ وشائك. لا أحد يختار المقاومة كأسلوب حياةٍ إلا لأنه مجبرٌ على ذلك، لو كان يقدر لكان صنع جيشه الخاص المساوي لجيش عدوّه وحاربه بشكلٍ مباشرٍ من دون اللجوء للمقاومة كأسلوب. إنما المقاومة هي فعلٌ ينتهجه الأضعف عسكرياً، الأقوى روحياً، ومن هنا كانت الكلمة: وروحي سلاح التي نرددها دائماً. فالسلاح قد يكون لدينا أقل، قد يحقق أصلاً أقل الخسائر المادية للعدو، لكنه يخلق لدينا دافعاً كي نكمل يومنا فرحين. كي نشعر بأننا لسنا وحدنا في هذا الدرب.
قبل التاسعة. تحركتُ وزوجتي باتجاه منزل عائلتينا. قررنا أن نجتمع، كانت المفاجأة أن الكل مجتمع، الكل في المخيّم أصلاً مجتمع. الجو كان متوتراً للغاية. كثيرون هم من اتجاهات سياسية وفكرية أخرى هنا، قلةٌ منهم مع «حماس» في المخيمات، لكن الجميع مع المقاومة.
أن تدخل المخيّم في يومٍ كهذا يعني أن تسمع جملة واحدةً فحسب: «وين حتكون الساعة 9». وقد تسمع جملةً أخرى من شابٍ يدعو صديقه ليحضر عند «الساعة التاسعة» لديه. باختصار، كان الأمر أكثر من حدثٍ جلل بالنسبة للشعب الفلسطيني في المخيمات. مخيمٌ بكامله جالسٌ بالانتظار. هل يمكن أن تأتي الساعة التاسعةُ ببطءٍ أكثر من هذا؟ تبتسم وأنت تعبر بين كل هؤلاء الناس، وتتأكد أن فلسطين قريبةٌ طالما أرواح الناس نابضة إلى هذا الحد.
قبل التاسعة-التي تجيءُ بدلالٍ اكبر فاكبر- نجلس جميعنا، قرابة العشرين شخصاً في غرفةٍ ضيقةٍ قد لا تسعنا جميعنا. نتأمل في عقارب الدقائق، والجميع على وجهه ابتسامةٌ متأكدة، فالمقاومة إذا وعدت لا تكذب. هي عادة المقاومة الحقّة: لا تكذب. البعض يحكي حكاياتٍ عن معارك قديمة للمقاومة، عن صمود مدهشٍ في خلدة، عن صراعٍ حادٍ بين قياداتٍ قررت أن تبيع الأخضر واليابس وقياداتٍ استشهد أطفالها لأجل القضية وظلّت تحارب حتى استشهدت. نقلّب القنوات بحثاً عن قناةٍ تنقل الخبر. يتساءل الجميع: الجزيرة؟ لربما لن تنقل الأحداث. العربية؟ يضحك الجميع، وتسمع تعليقاً من نوع: «ملك الزهايمر ما بحبش فلسطين». الأقصى؟ يتفق الجميع. فالقناة تنقل الأحداث تباعاً، وستكون عين الحدث.
التاسعة. تهل بشائر النصر. عشر بشائرٍ للنصر والعاصمة الصهيونية بلا أي سكان، مدينةُ أشباحٍ مهجورة للغاية. بلا أية أضواء، بلا أي صوت خلا هدير الصواريخ. قصفت المقاومة الفلسطينية عاصمة الصهاينة وأذلّت ناصيتهم. ونحن صرخنا، وهللنا، وفرحنا، وضحكنا. لأول مرةٍ منذ سنين أرى فرحاً كهذا في المخيّم. كان الفرح علامةً فلسطينية مسجّلة آنذاك. كان ذلك الفرح ما انتظرناه لسنين وسنين وسنين.