اقترح «الحزب الشعبي» (PP)، وهو أكبر حزب يميني في إسبانيا - معروف بمواقفه المناهضة للحقوق الفلسطينية ودعمه المطلق لنظام تل أبيب الصهيوني - تعديل ثلاثة قوانين تنظّم حقوق تكوين الجمعيات وتمويل الكيانات الحكومية والأهلية والخاصة، وذلك من خلال استدخال تعريف صهيوني لـ«معاداة السامية»، وضَعه ما يعرف بـ«التحالف الدولي لذكرى المحرقة» (IHRA)، وهي منظمة دولية تجمع ممثلين لـ 35 حكومة وعدة منظمات صهيونية، تحت عنوان «التوعية بالمحرقة»، لكنها كلمة حقٍ أُريد بها باطل.وتهدف التعديلات إلى منع حصول الجمعيات والكيانات التي تدعو إلى مقاطعة إسرائيل، أو تشير إلى نكبة عام 1948، أو تنتقد تاريخ الحركة الصهيونية وعلاقتها بالنظام النازي - اتفاق «الهاعفاراه» عام 1933 مثالاً - أو تنتقد إسرائيل على ما تقوم به من تطهير عرقي وسياسة فصل عنصري. وذلك باعتبارها، وفقاً لنص التعديل المقترح «معادية للسامية». وتجدر الإشارة إلى أن النص المقترح يذكر صراحة أنه يعتمد تعريف «التحالف الدولي لذكرى المحرقة»، كما يثبت محضر المداولات التي سبقت رفع المقترح من جمعية إقليم مدريد إلى مجلس النواب، أن الحزب الشعبي اعتمد وثائق قدّمها له اللوبي الصهيوني في إسبانيا، كما أن حزب Vox الفاشي اليميني المتطرف أيّد، بمنتهى الشراسة، مقترح الحزب الشعبي.

سبات رسمي واستفاقة غير رسمية
على الرغم من أن نص التعديلات قد سُجِّل رسمياً في قلم مجلس النواب الإسباني في مدريد، ونشر في جريدة البرلمان الرسمية في 13 أيار 2022، فإنه لم يلحظ أحد من السلك الدبلوماسي الفلسطيني أو من جمهرة الجمعيات والهيئات والمنظمات الداعمة للقضية الفلسطينية من الإسبان والفلسطينيين والعرب الأمر. وذلك لأن المقترح بعد تسجيله لم يُطرح من قبل الحزب الشعبي للتصويت، نظراً إلى انشغال اليمين واليسار في إسبانيا بمعارك مهمّة تتعلق بالأجور وقانون الذاكرة التاريخية والطاقة والضرائب.
لكن الأمور تسارعت على نحو خطير بدءاً من شهر أيلول الماضي، إذ أشيع أن المقترح سيُعرض على لجنة تقييم المقترحات في مجلس النواب الإسباني. وحزب الاشتراكيين الديموقراطيين (PSOE) الذي يرأس الائتلاف الحاكم، كان قد أيد رفع المقترح إلى مجلس النواب، وأن هذا الموقف في ظل ميزان القوى الحالي بين الكتل البرلمانية كان سيعني أن اللوبي الصهيوني سينجح في تقويض المنجزات كافة لحركة مقاطعة إسرائيل (BDS) وسحب الاستثمارات منها ومعاقبتها، وكل ما حققه اليسار الإسباني وحركة التضامن الشعبية الإسبانية من منجزات قانونية تدعم القضية الفلسطينية وتضيّق الخناق على نظام تل أبيب العنصري.

ثم جاء رد الفعل من قبل بعض المغتربين الفلسطينيين، وبعض اليهود المناهضين للصهيونية من حمَلة الجنسية الإسرائيلية، وحزب اليسار الموحد (IU) - الذي يتكون من الحزب الشيوعي الإسباني، وبعض التنظيمات اليسارية الصغيرة، وبعض النشطاء الإسبان في حركة المقاطعة (BDS). فتم تنظيم ندوة في مجلس النواب في العاصمة الإسبانية مدريد، بدعوة مفتوحة للنواب والجمهور، إضافة إلى ندوتين في جامعة غرناطة وفي جامعة بلد الوليد تحدّث فيها ثلاثة من اليهود المناهضين للصهيونية، أولهم: ليليانا قرطبة - كاجرجينسكي، وهي من مؤسسي «الشبكة الدولية لليهود المناهضين للصهيونية» (IJAN)، وابنها شاعر يهودي قاتل في صفوف أنصار الحزب الشيوعي السوفياتي ضد النازيين. وثانيهم: إيتان برونشتاين أباريسيو، وهو من رواد حركة «الريفيوزنيك» أي رافضي الخدمة في الجيش الإسرائيلي، ومؤسس «مفكك الاستعمار» (De-Colonizer) وهو مختبر بحثي وفني يعمل على توعية الجمهور الإسرائيلي بالنكبة وحق العودة، وقد ألّف إيتان بالتعاون مع إيليونور ميرزا - برونشتاين، أول كتاب باللغة العبرية عن النكبة والنضال اليهودي ضد الصهيونية (ترجمه الكاتب أخيراً إلى العربية وهو قيد النشر). أمّا ثالثهم فهو يونَتَن شابيرا، وهو طيار سابق في سلاح الجو الإسرائيلي، قاد حركة رفض للخدمة مع حوالي 30 طياراً آخرين، ثم طُرد من الجيش قبل أن يصبح من أهم الأصوات المناصرة للشعب الفلسطيني.
الفضل الأكبر في هذا الإنجاز يعود لقوّة حضور الرفاق اليهود المناهضين للصهيونية ولحجّتهم ومنطقهم


تحدّث اليهود المناهضون للصهيونية في مجلس النواب الإسباني عن مفهوم معاداة السامية، والاستخدام المغرض والمدلس من طرف إسرائيل لهذا المفهوم من أجل إسكات أي صوت داعم للحق الفلسطيني. كما وضّحوا بكل رصانة الفرق بين اليهودية والصهيونية، والفرق بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية التي تمثلها دولة إسرائيل. كما اجتمعوا بلجنة العلاقات الخارجية، وممثلين عن كتلة حزب الاشتراكيين الديموقراطيين (PSOE). وتكلّلت هذه الخطوات بالنجاح، إذ تعهد الاشتراكيون الديموقراطيون بعدم دعم ذلك المقترح، وهو ما يعني أن اللجنة المختصة بالنظر في المقترح، ستصوّت ضده في حال تقديمه نظراً إلى أن حجم الاشتراكيين الديموقراطيين مع بقية الأحزاب اليسارية - التي تدعم تقليدياً القضية الفلسطينية - لم يعد في مصلحة الصهاينة وأحزاب اليمين الإسباني.
جرى حديث غير رسمي بأن بعثة فلسطين الدبلوماسية في مدريد تحركت بعد مرور ثلاثة أيام على نشر الدعوات لندوة اليهود المناهضين للصهيونية في مجلس النواب الإسباني، وأن السفير اجتمع مع قيادية في حزب الاشتراكيين الديموقراطيين. لكنه تحرّك متأخر جداً، نظراً إلى أن العمل على تنظيم الندوات كان قد بدأ قبل أكثر من شهر على نشر الدعوات، فضلاً عن الموقف السلبي من بعض موظفي السفارة وأصدقائهم الإسبان الذين لم يعجبهم أن «يتحدث يهود عن الشعب الفلسطيني».

محاولة صهيونية يائسة
قبل ساعات قليلة على موعد الندوة التي تحدّث فيها كلٌ من إيتان برونشتاين أباريسيو ويونَتَن شابيرا، حدث لغط كبير في إدارة جامعة غرناطة، حيث مارس اللوبي الصهيوني ضغطاً كبيراً على الجامعة لإلغاء الفعالية. غير أن سلك الأساتذة النشط والملتزم، والمنظمات الطلابية التي كانت متحمسة للندوة، ساهموا في إيجاد حركية أبطلت المساعي الصهيونية في آخر لحظة. لم تُعقد الندوة وحسب، بل كان الحضور أكبر من المتوقع، فغصّت به القاعة، والبهو المفضي إليها، إذ إن اللغط الذي أثاره الصهاينة انقلب عليهم، بإشهار أكبر للندوة التي كانت ناجحة بكل المقاييس.


ما كان بالإمكان إفشال المخطط الصهيوني الأخير في إسبانيا، لولا يقظة الفلسطينيين المغتربين ورفاقهم الشيوعيين الإسبان وحصافتهم. لكن الفضل الأكبر في هذا الإنجاز يعود لقوة حضور الرفاق اليهود المناهضين للصهيونية ولحجّتهم ومنطقهم، إذ كان لحضورهم وقعٌ فتحَ أبواب مجلس النواب ولجانه ذات الصلة. إنّ في ما شهدته إسبانيا من هزيمة للوبي الصهيوني في تلك المعركة لعبرة؛ وهي أن النضال الذي يساهم فيه اليهود المناهضون للصهيونية، نضالٌ أكثر فعالية في بعض الأحيان من النضال الذي يخوضه الفلسطينيون والعرب وحدهم، ولا سيما في القارة العجوز التي للأسف يحظى فيها الرجل الأبيض باهتمام يفوق الاهتمام بغيره. لكن النضال المشترك بين الفلسطينيين أصحاب الأرض، وأبناء اليهود الذين جاءت بهم الصهيونية إلى فلسطين، نضال ضروري لتفكيك الصهيونية من الداخل على قاعدة عودة اللاجئين الفلسطينيين وإقامة الدولة الواحدة القائمة على العدالة الاجتماعية والمساواة، وهو نضال واجب على اليهود الواعين لتخليص أنفسهم من وطأة الصهيونية ودرنها، ونضال واجب على الفلسطينيين، فاليهود «الإسرائيليون» الذين جاءت بهم الصهيونية إلى فلسطين، مواطنون فلسطينيون في فلسطين المحررة من الصهيونية، وإلى ذلك الحين سيظل الأمر سجالاً مع اللوبي الصهيوني هنا وهناك.

* صحافي وترجمان فلسطيني
مقيم في إسبانيا