بعد مرور ستة عشر شهراً على الإعلان عن انطلاق «كتيبة جنين» في مطلع أيلول من العام الماضي، وعشرة أشهر على بدء عملية «كاسر الأمواج»، يبشّر المنحى التصاعدي للأحداث بتمكّن تلك الحالة البسيطة من صناعة ما يشبه «عدوى المقاومة» بين مدن شمال الضفة (جنين ونابلس) بداية، ومدن الجنوب والوسط (رام الله والخليل) أخيراً. الحالة التي أسّسها عدد من شبان مخيم جنين، الذين لم يعايش أكثرهم حتى في طفولته، وقائع الملحمة الكبيرة في عام 2002، استطاعت في ظلّ غياب البنية التنظيمية الفاعلة في التعبئة والتثقيف طوال الأعوام الممتدّة من 2007 حتى 2020، بناء تكتّل شبابي محلّي التنظيم والفكر، هو مَن يقود المشهد الفلسطيني اليوم.هذا الجيل الذي يشعل الضفة برمّتها، بعد نحو 15 عاماً من التدجين الاقتصادي والوطني الذي أنتج حالة «مستفِزة» من الهدوء، لم يختلط مثل أسلافه بالمفكّرين والمؤسّسين والقيادات المحلية للفصائل. ومن هنا، يُلحظ الفارق على المستويَين الثقافي والفكري، بين قيادات المقاومة في الضفة عام 2002 مثل محمود طوالبة ومحمد سدر ورياض بدير ولؤي السعدي من «الجهاد الإسلامي»، ومحمود أبو هنود ونصر جرار وعبد الله البرغوثي من «حماس»، ورائد الكرمي وحسين عبيات وثابت ثابت وزكريا الزبيدي من «فتح»؛ وبين قيادات الحالة الراهنة. ثمّة اليوم جيل تربّى على حكايات البطولة الشفوية، من دون أن يخضع بأيّ شكل من الأشكال للتربية الحزبية الموجّهة والمركّزة، الأمنية منها والسياسية والفكرية، وهو ما سينعكس على أدائه المقاوم. هؤلاء الشباب، وعلى رغم أنهم أعادوا بفهمهم البسيط، الصراع إلى مهده الأول، إلّا أنهم أكثر عرضة لتكرار تجارب سابقة، يحيط بها كثير من الأخطاء.
إذا ما أعيدَ ترتيب المشهد من جديد، يتّضح أن الهاجس الرئيس لدى المؤسّسة الأمنية لدولة الاحتلال في بيئة مثل الضفة الغربية، التي تمثّل الحديقة الخلفية للكيان، وخزّان التمدّد الجغرافي لمستوطناته، والحيّز الذي يعيش فيه أكبر تجمّع بشري فلسطيني يقوم بدور «حصان طروادة الأسطوري»، وقادر على اختراقه والالتحام بمستوطنيه من مئات الثغرات، لا يتّصل بسيناريو تمكّن المقاومة من قتل 100 جندي في ضربة واحدة، ثم مقتل شبابها هي، وانتهاء الحالة برمّتها معهم، بل بأن تؤسّس بنية قادرة على صناعة نسق مستمرّ من التهديد الأمني، في ما يُسمى في أدبيات الـ 2022 «تكتيك المشاغلة». يستطيع هذا النسق من الفعل المقاوم، التحايل على فارق القوة اللوجستية مع الخصم؛ إذ من شأن بضع طلقات تستهدف حافلة للمستوطنين تسير في أحد الطرقات الفرعية بين جنين ونابلس مثلاً، تقويض الجهود التي تبذلها 25 كتيبة عسكرية تابعة لجيش الاحتلال، تخدم في مدن الضفة، وتحييد المعارك محسومة النتائج لمصلحة العدو، من خلال القتال المباشر في حيّز جغرافي ضيق، ومراقَب بشتّى الوسائل التكنولوجية.
منذ انطلاق «كتيبة جنين» وحتى يوم أمس، استشهد نحو 78 شاباً،  24 منهم ينتمون إلى «سرايا القدس»، قضوا خلال التصدّي للقوات الإسرائيلية الخاصة التي كرّرت اقتحام المخيم خلال الأشهر الماضية، فيما تكشف عملية اغتيال القيادي فاروق سلامة مطلع تشرين الثاني الماضي، مستوى الرقابة والمواكبة وسرعة الاستجابة التي يمتلكها جيش الاحتلال في التعاطي مع المخيم الذي لا تتجاوز مساحته 37 كيلومتراً. إذ أُرسلت القوة الخاصة لاغتياله خلال تجهيزه الذبائح لمراسم فرحه المقرّر في اليوم التالي، بناءً على معلومة ذهبية حصل عليها العدو بالصدفة، من بثّ مباشر لأجواء الفرح، كان قد بدأه أحد الحضور عبر صفحته الخاصة في «فايسبوك» بحسن نية، لتنطلق الوحدات الخاصة من حاجز الجلمة إلى عمق مخيم جنين، في «رحلة» لا تستغرقها أكثر من ثماني دقائق.
ما هو المهمّ اليوم؟ بالعودة إلى تجربة اجتياح مخيم جنين عام 2002، ورغم كلّ ما تحمله من حكايات البطولة المثيرة للإلهام، إلا أنه بالمعنى المهني العسكري، فإن جيش الاحتلال نجح بشكل ناجز في القضاء على البنى التحتية للمقاومة، واستراح لسنوات طويلة من أكبر تهديد كان يمثّله تجمّع المقاومين الأكثر تميزاً وفهماً للصراع. وما يسعى إليه إعلام العدو اليوم، هو إعادة تذخير «الأحياء شبه الآمنة» في عقول المقاومين، بوصفها «القلعة» التي من المعيب شرفياً اقتحامها من دون مقاومة، على اعتبار أن نجاح 100 آلية عسكرية مدعّمة بعشرات الطائرات المسيّرة من دخولها، سيمثّل هزيمة لفلسطين الكبرى، وفق ما تشير إليه معالجة المراسلين العسكريين في القنوات العبرية لأحداث مخيم جنين. تقود صناعة مثل هذا الوهم، إلى صرف الانتباه عن الهاجس الأكبر، وهو التمدّد، والبحث عن ملاذات آمنة جديدة، ونشر القيادات المحورية في أنحاء أكثر اتّساعاً، فضلاً عن بناء خلايا ظلّ، تعمل بعيداً عن الأضواء، بما يحافظ على استمرارية فعل «المشاغلة» إلى أبعد مدى، من دون الالتفات إلى معادلات الإيهام. ولو كان لمخيّم جنين أن يتكلّم، لقال: «اجعلوا كلّ مدن البلاد مخيماً!».