غزة | بعد تسعة أشهر من الجلوس إلى طاولة المفاوضات، خرجت السلطة الفلسطينية خالية الوفاض. عبّد الرئيس الفلسطيني محمود عباس الطريق أمام العدو الإسرائيلي، ليبقى متقمصاً دور المراوغ، ومستعرضاً عضلاته التفاوضيّة حتى على صعيد الأسرى. لم تحصد السلطة خلال تلك الفترة الحبلى بالابتزازات السياسيّة سوى إفراجٍ عن ثلاث دفعات من أسرى ما قبل أوسلو.
لكن الثمن المقابل لم يكن بخساً على الإطلاق، إذ باتت المعادلة التي تحرّك وفقها الطرفان هي «أسرى مقابل مستوطنات» خلف عباءة الأسرى، أعطت السلطة الضوء الأخضر للاحتلال ليَلتهم مساحات واسعة من أراضي الـ 67 ويجيّرها لمصلحة «البكتيريا الاستيطانية». اليوم تبدّلت المعطيات تماماً ومعها أحد طرفي المعادلة. قلب قطاع غزّة الرازح تحت نيران العدو المشهد رأساً على عقب، فباتت الورقة الرابحة بيده.
هذه الورقة التي لوّحت فصائل المقاومة باستثمارها لتحرير الأسرى أشهرتها كتائب عز الدين القسام (حماس) أول من أمس بوجه الاحتلال. كذلك إن السيناريو الذي دفع الاحتلال إلى التململ إزاء قرار العملية البرية في القطاع استحال واقعاً، إذ أسرت «القسام» الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون في عملية نوعية شرق غزة.
أوقعت إسرائيل السلطة في فخ المساومة وابتزتها في الدفعة الرابعة


مباشرة اندفع الغزيون إلى الشوارع غير آبهين لما قد تصنعه طائرات الاحتلال ومدفعياته. تحولت الشوارع إلى ساحات للفرح، حتى إن أهالي شهداء مجزرة الشجاعية تعالوا على جراحاتهم، فصدحت أصواتهم الممتنة لصنيع المقاومة الفلسطينية. أحسّ هؤلاء بأن صدورهم قد شفيت، وتلقفوا الخبر بروحٍ توّاقة إلى تبييض السجون من الأسرى، ومستحضرين في الوقت نفسه عملية «الوهم المتبدد» التي انتهت بالإفراج عن 1000 أسير فلسطيني. شعلة الفرح هذه التي أنارها قطاع غزّة سرعان ما انتقلت إلى كل بقاع فلسطين المحتلة.
في المقابل، أرخت ظلال الإحباط السياسي التي كان يعيشها الضفاويون تحديداً، جرّاء شق السلطة طريقاً منحرفاً عن البوصلة المركزية، على قضية أسر الجندي، إذ عمدوا إلى عقد المقارنات بين الأسلوبين اللذين ينتهجهما كل من السلطة وفصائل المقاومة، في انتزاع حرية الأسرى، والنتائج التي يحصّلونها من ورائهما. مع ذلك، وصل معظم الفلسطينيين إلى قناعة تامة بأن لا ثمار تُجنى على صعيد قضية الأسرى عبر اعتماد المفاوضات، وخصوصاً بعدما نجح الاحتلال في نصب الفخاخ للسلطة، ومساومتها على مسألة الإفراج عن الدفعة الرابعة للأسرى.
من جهتهم، لا يعوّل أهالي الأسرى على السلطة ومحادثاتها، بقدر ما يراهنون على المقاومة، ويصوّبون كل آمالهم نحوها، وتحديداً بعدما حاولت السلطة ممثلةً بأجهزتها الأمنية كسر التضامن مع الأسرى الإداريين الذين خاضوا معركة الأمعاء الخاوية، وذلك التطاول اللفظي والجسدي على زوجات الأسرى، واعتقال الناشطين المحرّكين لهذه القضية.
رغم خطف العدوان على قطاع غزّة الوهج الإعلامي من الأسرى، نجحت المقاومة في إعادة تموضع هذه القضية العادلة على خريطة الأولويات الفلسطينية، ليكون لحادثة الأسر وقعٌ خاص في نفوس أهالي الأسرى. وتقول الحاجة أم ضياء الفالوجي، والدة الأسير ضياء المحكوم مدى الحياة: «والله يمّا ما صدّقت لما سمعت الخبر من التلفزيون، صرت أهلل وأكبر لأنو هاي العملية أملنا الوحيد هلقيت، وخصوصاً إنو ضياء قضى 23 سنة بالسجن، وكان مفروض يطلع بالدفعة الرابعة».
الأمل الذي أضاء منزل الحاجة الفالوجي دفعها إلى مطالبة المقاومة الفلسطينية بالتفاوض على الأسرى القدامى وأصحاب المؤبدات وذوي الأحكام العالية، قائلةً لـ«الأخبار»: «بنبوس أقدام المقاومين وبنقلهم شدّوا حيلكو، وبنتمنى منهم يحددوا الأولويات في عملية التبادل. صح عندي ابني محمد كمان محكوم 12 سنة، ونفسي أخده في حضني هلقيت، لكن عشان ضايله 10 شهور ما بطالب المقاومة إنها تحط اسمه في قائمة الأسرى لو نجحت الصفقة». كذلك، دعا أبو حسني الصرفيتي، والد الأسير علي المحكوم 16 عاماً، المقاومة الفلسطينية إلى رفع سقف اشتراطاتها على العدو للإفراج عن الجندي شاؤول. وشدد، في حديثه لـ«الأخبار»، على ضرورة تجاوز المقاومة «أخطاء صفقة وفاء الأحرار» بعد غياب أسماء أسرى ذوي محكوميات متدنية، وتجاهل 3 أسيرات أخريات، عدا إبقاء بقية الأسرى في العزل الانفرادي. وأضاف: «يجب على المقاومة أن تكون متيقظة بهذه الصفقة، وتشترط الإفراج عن جميع الأسرى دفعة واحدة، وإيجاد ضمانات لعدم إعادة اعتقال أسرى الصفقة».
أما عن رد فعل الأسرى في سجون الاحتلال لحظة سماعهم لخبر أسر الجندي، فأكد الصرفيتي أن أصوات التكبيرات وهتافات الانتصار علت داخل السجون، ما دفع الاحتلال إلى قمع الأسرى، تحديداً في سجني نفحة وريمون، بسحب أجهزة التلفاز وجميع الأدوات الكهربائية من أقسامهم وغرفهم.
ووسط كل هذه الأصوات الداعية إلى رفع المقاومة سقف اشتراطاتها على العدو، قال المتخصص في شؤون الأسرى، عبد الناصر فروانة، إن «على الاحتلال التعامل بعقل مع قضية أسر الجندي، وعدم تأجيلها إلى سنوات طويلة كما حدث مع الجندي جلعاد شاليط، فهو في النهاية لن يملك أي خيارات سوى اللجوء إلى فصائل المقاومة للتفاوض معها». واعتبر فروانة، في حديث مع «الأخبار»، أنّ «الإنجاز النوعي لفصائل المقاومة تمهيداً لتبييض السجون، وخصوصاً بعدما رفعت عملية الخليل عدد الأسرى إلى 6000 أسير».




الأسرى فرحون بأصوات الصواريخ والصفارات

بعد أن باتت فلسطين المحتلّة من شمالها إلى جنوبها في مرمى المقاومة وصلياتها الصاروخية، عمّ الفرح أوساط الأسرى الفلسطينيين، رغم الخطر المحدق بهم جرّاء سقوط عدد من الصواريخ في محيط السجون التي يقبعون فيها.
لم يتمالك الأسرى أعصابهم حين سمعوا صفارات الإنذار تدوّي، وفق ما نقله أهالي الأسرى عن أبنائهم. كذلك نقلوا عنهم أن صواريخ المقاومة فرجت قليلاً من همومهم بعدما ضيق عليهم الاحتلال سبل الزيارة بسبب عملية الخليل الأخيرة.
وكانت مؤسسات مدافعة عن حقوق الأسرى قد ناشدت الفصائل توخي الحذر عند إطلاق الصواريخ وعزلها قدر الإمكان عن أماكن المعتقلات، حرصاً على أرواح الأسرى. يشار إلى أن مناطق جنوب فلسطين كانت صاحبة الزخم الصاروخي، ويقع فيها كلّ من سجون «نفحة» و«ريمون» و«عسقلان» و«بئر السبع». حتى المناطق التي تتبع السلطة طاولها قصف المقاومة وتحتضن في كنفها سجن «عوفر المركزي» قرب رام الله، ووصلت الصواريخ أيضاً إلى البقاع الشمالية، وهناك يقع سجن «الرملة».