ليس مثل الناس العاديين من يفحص حقيقة الحدث وحقيقة المقاومة الناصعة في غزة اليوم، حيث التضحيات الهائلة، والإنجازات التي يرى الجمهور خواتيمها فقط. لكن التفكير في كيفية الاستعداد لها، يدفعنا إلى تقدير حجم الجهد لترتيب الأسلحة المستخدمة في المعركة، وحجم التفكير لوضع الخطط والتدرب عليها، وحجم الصبر تحسباً ليوم المواجهة، وحجم اليقظة الذي سكن عقول من يقود المقاومين هناك. يكفي النظر إلى الإنجازات حتى يتمكّن الناس العاديون من فهم أن ما يجري اليوم في غزة، يتجاوز أهل القطاع، ويتجاوز حتى أحلامهم وأحلامنا. هذه هي الحقيقة التي تجعل راية المقاومة فوق كل الرايات.
يكفي النظر إلى عيون التحدي في وجوه الفلسطينيين المتظاهرين في كل فلسطين التاريخية حتى ندرك حجم الانتصار الذي يسكن عقول هؤلاء. ويكفي النظر إلى ارتباك عناصر الشرطة الفلسطينية في رام الله والخليل ونابلس، حتى يتيقن المرء منا، أن رجل الشرطة هذا يخشى العودة إلى منزله، حيث لن يقابله أفراد أسرته بأي نوع من الابتسامات. ويكفي النظر إلى حجم الاستنفار الأمني الإسرائيلي الموصول بعجز فعلي عن قمع الشارع العربي في فلسطين، حتى نتلمس حجم الهزيمة التي دخلت عقول الإسرائيليين.
كل ذلك يبيّن أن المقاومة عادت الخيار الأقوى للفلسطينيين أولاً، وتجاوزت الكثير من الانقسامات السياسية. حتى حركة فتح، خرج منها كوادر يعلنون التمرد على أي سلطة يمكن أن تسبب إيذاء المقاومة. وحتى في مصر والأردن وفي لبنان، ثمة مناخات تسمح بمغادرة الأجواء القاتمة التي أثارها «الربيع المشؤوم»، خصوصاً حيال المقاومة: مصر التي جعلها «الجنرال» في موقع القاهر لا المناصر بدأت ترتفع فيها أصوات رافضة لمحاصرة المقاومة، وسوريا التي انهكتها الحرب، خصوصاً لأنها الحاضن الأساسي للمقاومة في لبنان وفلسطين، لا تبدو قيادتها أسيرة حسابات الخلافات مع «حماس»، وقد كان لافتاً تأكيد الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم بقاءه إلى جانب المقاومة.
أسطورة المقاومة في غزة ستحمي لبنان لسنوات، وستكون جسراً لمن يريد كبح
الجنون المذهبي

أما لبنان، ففيه ما هو قابل للصرف المباشر من رصيد انتصار غزة ومقاومتها. وكما كان انتصار المقاومة في تموز 2006 عنصر قوة للمقاومة الفلسطينية، ستكون لصمود المقاومين في غزة وبطولاتهم بركاته على المقاومة في لبنان. صمود غزة سيعقّد على العدو كثيراً مجرد البحث في عدوان جديد على لبنان. ويمكن أن نتخيل أن أي عدوان سيحتاج حاكماً إسرائيلياً فاقداً لأي ذرة من الحكمة. دروس غزة اليومية تجعل كل من له رأس فوق كتفيه، يدرك أن زمن التفوق والمبادرة لدى العدو يشارف على الانتهاء.
لكن هناك بعداً آخر، يتعلق بإعادة ترتيب بيت المقاومة في لبنان وفلسطين، وهي خطوة تحتاج إلى مبادرة باتت موجودة عند من بيده الأمر. وستكون مناسبة لإعادة توضيح كل الالتباسات التي سادت في العامين الماضيين. في فلسطين مقاومة لا يحق لأحد مساءلتها، ولا تريد من أحد فتح جبهات مجنونة من أجلها. جلّ ما تريده عدم التآمر عليها. هي، اليوم، في الموقع نفسه الذي كانت المقاومة في لبنان فيه أيام حرب تموز. ولعل هذه المعركة تفتح الباب أمام نقاش يقود إلى مواجهة أكثر عقلانية للجنون المذهبي القائم. من هو ضد المقاومة في لبنان على خلفية أنها شيعية، يتآمر على المقاومة في فلسطين رغم أنها سنية. وكل المجانين الذين يتحدثون عن البعد المذهبي والديني في معاركهم أو في خصوماتهم، يقفون اليوم أمام امتحان حقيقي، لأن المقاومة باتت هي الاختبار الجدي لكل المتآمرين على أمتنا من أنظمة وحكومات ودول وجماعات سياسية.
أمس واليوم، فلسطين كلها تقول نعم للمقاومة. ولا حاجة لنا، في لبنان أو سوريا، لمن يفحص دمنا الفلسطيني. فلنقلها صراحة: مقاومة فلسطين باتت أعلى من كل القوى والأفكار والعقائد، وهي حتماً فوق النقد، ومن لا يعجبه ذلك، فليرم نفسه في بحر تزمّته وليشرب منه!