بعد وقت ليس طويلاً، سيصير الفلسطينيُّ، فلسطينياً سورياً - لبنانياً - غزاوياً، تضاف إليه الجنسية الجديدة التي سيحملها من أوروبا أو أميركا. سيصير اللاجئ الفلسطيني لاجئاً ومواطناً في بلد ما، بعدما عاش عمراً طويلاً هو وأجيال من اللاجئين كلاجئين في دول عربية عدة، بعضها اعترف له ببعض الحقوق الطبيعية له كإنسان، وبعضها لم تعترف به كإنسان ولا كغيره، ظلّت تعتبره زائداً على أرضها، ومعنى وجوده الوحيد الكارثة المستمرة.أن يصير اللاجئ الفلسطيني مواطناً في بلد ما، يعني أنه مرّ بلجوء جديد على الأغلب، وحمل جنسية بدلالة لجوءين أو أكثر، واحد من وطن مستعمَر، وآخر من مخيم سكنه الفلسطيني بعدما هجّره المستعمر من وطنه.
التهجير بسبب المستعمِر، واضح جليّ، ومعروفة أحداثه، ونتائجه واضحة بعشرات المخيمات المنتشرة بين فلسطين وسوريا ولبنان والأردن، بينما «الهجرة» أو التهجير من البلدان خارج فلسطين، فأسبابها متعددة، منها الحروب، وما يطرأ عنها من موت وألم وعوز، وتحوّل البيئة الحاضنة إلى بيئة طاردة رافضة للآخر «الغريب».
هؤلاء الفلسطينيون الذين يهاجرون، يحملون أطفالهم، وينجبون في البلاد الجديدة، يحاولون تعليم الصغار لغتهم العربية، وثقافتهم الأصلية، بينما تقوم البلاد الجديدة بتعليمهم لغة البلاد وثقافتها. سيعرف هؤلاء الصغار منذ نعومة أظفارهم أنهم من فلسطين، وأنّ أهلهم تربّوا في مخيمات، وأنهم خرجوا منها لأسباب عديدة، منها المعاناة، ومنها أنهم بلا جنسية، وأن الانتماء المعنوي لفلسطين لم يكتمل بعلاقة مادية خارج أوراق الأونروا، وبطاقات الهوية من البلدان المضيفة المعنونة بتوضيح، أنها «بطاقة لاجئ» مؤقتة، وهذا التوقيت، كما يوضحون، حتى تحرير فلسطين وعودة اللاجئين، لكنّ أحداً لم يوضح، أنها مؤقتة حتى تغضب تلك الدول المضيفة على الفلسطينيين، فترحّل أو تضيّق أو تشلّ حياة اللاجئين، فيخرجون «طوعاً» بحثاً عن بلاد جديدة.
في تلك البلاد الباردة غالباً، يحدث أن يصغي الفلسطيني إلى شعوب لم تعرف عن قضيتهم، ولم تسمع بمكان على الخريطة اسمه فلسطين، لكن مع إحالة صغيرة، أن المكان ذاته أمسى اسمه «إسرائيل» يستقيم النقاش، ويدخل حيّزاً جديداً، يضطرّ فيه اللاجئ - المهاجر، إلى شرح وتوضيح الحكاية منذ البداية، ومع ذلك، ستتفاوت الردود بين المتعاطفين والرافضين المتمسّكين برواية الغرب - إسرائيل عن تلك الأرض التي اسمها فلسطين، والصدمة ستأتي حين ينتبه اللاجئ إلى أن قضيته، في نظر الغرب، لن تكون قضية حقّ، بل إنها مسألة قابلة للمساومة، وقابلة للأخذ والردّ والنقاش الطويل، وصولاً إلى الإقناع أو عدمه، لكن مع مزيد من النقاشات، مع مزيد من الدأب على الانتماء، سيتغيّر الأمر، هذا ما يحدث خلال الحروب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، تخرج تظاهرات كبرى في شوارع أوروبا وأميركا، تعلن رفضها للقتل، وتضامنها مع الفلسطينيين، إنها جهود هؤلاء الذين هاجروا، وجهود عرب ومتضامنين غربيين مع فلسطين. سيكتشف اللاجئ - المهاجر، أنه ملزم بتعليم صغاره عن فلسطين، وإخبارهم أنّها حقهم، وما هجرتهم إلا مؤقتة في سبيل عودة دائمة إلى فلسطين، حيث كان الأجداد وأجداد الأجداد يسكنون ويعيشون ويموتون. وحتى تحقيق ذلك، لا بدّ من عمل، عمل كثير، لا أعرف اليوم مسؤولية من، لكنه على الأقل مسؤوليتنا جميعاً أن نوفّر كل اللازم لتعليم أجيال قادمة عن أرضهم، وتعليمهم بأنهم ملزمون بالنضال من أجل فلسطين، من أجل تحريرها والعودة إليها.