بعد الحضور الفعّال الذي عبّرت عنه كتيبة جنين، منذ أن أعلنت عن نفسها، في أيلول عام 2021، حاول الاحتلال، بشتى الطرق، أن يتخلّص منها، عبر سلسلة من عمليات الاغتيال، تواصلت على مدار الأشهر الأخيرة، وتصاعدت حدّتها لتبلغ ذروتها يوم الخميس في 26 من الشهر الماضي. هاجمت الوحدات الخاصة التابعة لقوات الاحتلال مخيم جنين، فطوّقت أحد المنازل، طالبة من الشبان داخله تسليم أنفسهم، وبعدما رفض الشبّان أمر التسليم، اندلعت اشتباكات مسلحة عنيفة، بين الشبان المتحصّنين في المنزل وبين القوات المتسلّلة إلى عمق المخيم، الأمر الذي دفع عناصر المقاومة في المخيم إلى مباغتة القوة الخاصة، ومحاصرتها من كل الاتجاهات، بعد تفجير عبوة ناسفة بشاحنة الألبان التي استخدمت للتخفّي أثناء التسلل إلى المخيم. استمرت المعركة ثلاث ساعات، استقدمت خلالها قوات الاحتلال تعزيزات عسكرية كبيرة؛ عشرات السيارات العسكرية المصفحة، وعدداً كبيراً من الجرافات التي أزالت الحواجز التي نصبتها المقاومة على مداخل المخيم. حتى هذا الوقت، كانت كل التوقعات منصبّة على اعتقال بعض المقاومين، لكن بعد انسحاب القوات المهاجمة من المخيم، انقشع غبار المعركة، وتبيّن أن جيش الاحتلال ارتكب مجزرة، ارتقى فيها عشرة شهداء، بينهم سيدة مسنّة، وعشرات الجرحى.

أهداف المجزرة
من الواضح أن الاحتلال في هذه الهجمة استخدم غزارة نيران غير مسبوقة، وزجّ بالأسلحة الصاروخية في هذه المعركة، وبرّر الأمر، عبر وسائل الإعلام الصهيونية، بالحاجة التكتيكية الملحّة التي أملت عليه ذلك، ويقصد بها تعرض القوات الخاصة داخل المخيم لخطر الإبادة من قبل رجال المقاومة الذين حاصروا تلك القوة. ومهما كانت تلك الذريعة واهية، ففي دلالاتها أن المقاومة تمكنت هذه المرة من إبراز قوة نارية كبيرة، جعلت من القوات الخاصة المهاجمة في محل الدفاع، بعدما دخلت المخيم مهاجمة، ففقدت قدرتها على التحكم بزمام المبادرة.

خلفيات الهجوم
سبق الهجوم على منزل المقاومين، الذين يتبعون لكتيبة برقين، رسائل من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ممثلة بجهاز الأمن الوقائي في المحافظة، حيث عمل الجهاز على محاولة إجبار المقاومين من كتيبة برقين، على تسليم أنفسهم لجهاز الأمن الفلسطيني، مقابل إصدار عفو عنهم خلال 15 يوماً من تسليم أنفسهم، لكن عناصر الكتيبة رفضوا هذا العرض، واختاروا التحصّن داخل المخيم، نظراً إلى وجود مساحة آمنة نسبياً.
وأشارت بعض المصادر المطّلعة على حيثيات العرض، إلى أن من جرى التواصل معه، هو قائد الخلية الشهيد محمد صبح والشهيد نور وشقيقه محمد غنيم، وأن العرض قدّم لهم قبل أيام قليلة من وقوع الهجوم.
وفي كل الأحوال، فإن الأجهزة الأمنية الفلسطينية ليست بعيدة عن خطوات كهذه، فهناك سوابق عديدة لها، والأمر غير مستبعد عنها. ففي الأشهر الأخيرة، أقرّت الأجهزة الأمنية بوجود عروض للمقاومين، وبالتحديد تلك التي قدّمتها قبل أشهر لعناصر «عرين الأسود» في نابلس، وبررت في حينها أن هدفها حماية المقاومين من الاغتيال. ومع هذا، فإنّ مقاومي نابلس تعرّضوا للاغتيال بعد تلقّي تلك العروض.
الواضح أن تراكم الخبرات لدى «كتيبة جنين»، لم يكتمل بعد، ولم يصل إلى الحدّ الذي يمكن أن يحصّن رجال المقاومة من الوقوع في شراك العدو وغدره


وبلا شك، فإن السلطة، منذ نشوء كتائب المقاومة المسلحة، على اختلاف ألوانها، تقوم بمحاولات لاستعادة زمام المبادرة في أيديها، بعدما أصبح العديد من مناطق شمال الضفة الغربية المحتلة تحت سيطرة كتائب المقاومة، التي أوجدت لنفسها حضوراً ثابتاً، في ظل وجود حاضنة شعبية كبيرة وداعمة، وخاصة بعدما تمكّن رجال المقاومة في السنة الماضية من تحقيق نجاحات كبرى، على صعيد إدامة الاشتباك مع قوات الاحتلال، إضافة إلى عشرات الهجمات على المستوطنات والحواجز العسكرية للاحتلال.

بعد المجزرة
في قراءة تداعيات المجزرة التي ارتكبت في جنين، يمكن الانتباه إلى سرعة الردّ الذي تمثل في عملية القدس التي نفذها الشهيد خيري علقم في قلب ضاحية استيطانية داخل القدس المحتلة، والنتائج التي خلفها علقم، بعد تمكنه من إيقاع خسائر بشرية عدة، سبعة قتلى وأكثر من ستة جرحى في صفوف المستوطنين، فقد طوت صفحة الرد السريع إمكانيات الاحتلال في التعامل مع المقاومة، باعتبارها لحظية ومناطقية محددة. ففي عملية «النبي يعقوب» رسالة واضحة أن المقاومة في فلسطين ممتدة، وقادرة ومقتدرة، على إيقاع الخسائر البشرية في صفوف العدو.

على صعيد السلطة
بعد المجزرة مباشرة، أعلنت السلطة، على لسان نبيل أبو ردينة، وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، لكن هذا الإعلان مشكوك في صحته، لأسباب كثيرة، منها أن السلطة أعلنت مثل هذا الإعلان أكثر من 64 مرة، وفي كل مرة كانت السلطة تعود للتنسيق الأمني، فهو بالنسبة إليها «مقدّس» حسب قول رئيسها محمود عباس في عام 2014، وبالتالي فإنه كما يبدو يمثّل جوهر وجودها، وفعلها وحركتها، فمن خلاله تضمن السلطة ربما بقاءها.

على صعيد المقاومة
من الواضح أن تراكم الخبرات لدى «كتيبة جنين» لم يكتمل بعد، ولم يصل إلى الحدّ الذي يمكن أن يحصّن رجال المقاومة من الوقوع في شراك العدوّ وغدره، وذلك لأسباب متعددة، منها الإمكانيات التسليحية المحدودة التي تمتلكها، إضافة إلى ذلك فإن المقاومة في جنين تحاول أن تبتكر الوسائل الجديدة للمواجهة، فأعلنت بعد وقوع المجزرة مباشرة عن سلسلة من الإجراءات الاحترازية، تمثّلت بمنع كل الشاحنات المغلقة من دخول المخيم، لتغلق الباب على أيّ إمكانية مباغتة من قبل قوات الاحتلال، بعدما كانت قد أضافت إلى جعبتها الإنذار المبكر، الذي يمكّن عناصر المقاومة الفلسطينية من معرفة مكان وجود قوات الاحتلال قبل وصولها إلى المخيم.