لا يشابه مسار التطبيع، الذي يعاد تسليط الضوء عليه من حين إلى آخر، بين النظام السوداني وإسرائيل، أيّاً من المسارات المماثلة مع دول عربية أخرى طبّعت أخيراً علاقاتها بالعدو الإسرائيلي. ذلك أن السياق هنا، كما الشكل والمضمون والإرادة الابتدائية والأهداف، تبدو كلّها أكثر تعقيداً وتداخلاً، وبعيدةً عن المعادلة التي حكمت عمليّات التطبيع الأخرى لناحية تلقّي الأطراف العربية أثماناً لقاء قراراتها؛ إذ إن على الطرف العربي هذه المرّة أن يَدفع هو ثمن انفتاحه على إسرائيل. وللتذكير، فإن السودان لم ينضمّ بالكامل إلى اتّفاقات التطبيع الخليجية - الإسرائيلية لدى إعلانها في أيلول 2020؛ حيث اقتصر الأمر حينذاك على اتّصال هاتفي ثُلاثي جَمع رئيس «مجلس السيادة» السوداني عبد الفتاح البرهان، ورئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، أُعلن في أعقابه الاتّجاه إلى إبرامه اتفاقية بين الخرطوم وتل أبيب، على غِرار «اتّفاقيات آبراهام» التي جمعت الأخيرة بأبو ظبي والمنامة.على أن إسرائيل لم تكن هي التي أجّلت توقيع الاتفاقية المنشودة؛ إذ ليست ثمّة أثمان مطلوبة منها لقاء التطبيع مع السودان، فضلاً عن أن مجرّد إزاحة الأخير من مربّع «العداء» أو «الحياد»، يُعدّ فائدة معتدّاً بها بالنسبة إليها، قياساً إلى ما يمكن أن تجنيه من «اتّفاقيات السلام» الجديدة المبرَمة إلى الآن. أمّا الحُكم العسكري السوداني، فهو مستعدّ لتطبيع كامل «غبّ الطلب» مع دولة الاحتلال، من دون أيّ مطالب أو بحث عن تسويات، فيما جلّ ما يتطلّع إليه هو نيْل الرضى الأميركي عن نظامه، والكفّ عن مطالبته بتغييرات في غير مصلحته مِن مِثل نقْل السلطة كاملة إلى المدنيين، أي بتعبير آخر، تقبُّل الوضع كما هو، تماماً مثلما تتقبّل أميركا أيّ نظام عربي ديكتاتوري آخر. «مربط الفرس»، إذاً، في هذا المسار، إنّما يتمثّل في الطرف الأميركي، الذي كانت لديه سلّة أثمان يريد تدفيع الخرطوم إيّاها قبْل أن يسمح لها بالارتماء في الحضن الإسرائيلي، وهو ما حاول العسكر السوداني تجنُّب دفْعه، الأمر الذي أدّى بالنتيجة إلى اقتصار مسار التطبيع، طوال الأشهر الماضية، على إعلان النيّات، من دون التوقيع الفعلي على أيّ اتفاق.
إلّا أنه، وفقاً لوزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، الذي زار الخرطوم، أوّل من أمس، والتقى البرهان وكبار المسؤولين في النظام العسكري الحاكم، يُفترض التوقيع على اتّفاق التطبيع بين الجانبَين خلال أشهر، وقبل نهاية العام الحالي. فهل هذا يعني أن الجانب الأميركي أعاد تقدير موقفه، وأن مسار التطبيع السوداني - الإسرائيلي بات سالكاً؟ لا إجابات يقينية إلى الآن، إنّما الأرجح أن يكون ذلك صحيحاً، وفقاً لِما يَجري تداوله من تصريحات ومواقف وتسريبات. حتى الأمس القريب، كان الموقف الأميركي من النظام السوداني مبنيّاً على ضرورة التريّث قبل القبول النهائي به، حتى لو أبدى الأخير استعداده للانقياد الطوعي والتامّ للمشيئة الأميركية، لقاء بقائه في الحُكم. والتريّث هذا مبنيّ، في حقيقته، على عدّة عوامل، أبرزها: هشاشة الوضع في السودان وعدم استقرار الحُكم الحالي فيه، وإمكانية تَغيّره وفقاً لعوامل ونزاعات داخلية مبنيّة على المصالح الشخصية والتسابق للاستفراد بالسلطة، وإنْ كان المقدَّر أن يكون السلف كما الخلَف، منساقاً بدوره للإرادة الأميركية.
بيد أن التطوّرات الداخلية في السودان، راهناً، تنبئ بإمكانية الاتّجاه نحو استقرار نسبي، قياساً بما كانت عليه الأوضاع لدى الإعلان عن المكالمة الهاتفية الثُلاثية بين البرهان ونتنياهو وترامب، عام 2020. إذ أنهى الحكّام العسكريون ثُنائية الحُكم مع المدنيين، وأفرغوا عملياً أيّ وعود أو استحقاقات من مضمونها في كلّ ما يتعلّق بانتقال السلطة إلى المدنيين، والذي يمثّل المطلب الأميركي والغربي المعلَن من الخرطوم. بتعبير آخر، فإن المؤقّت السوداني بات دائماً، تماماً كما هي الحال في دول أخرى تدور في الفلَك الأميركي، من دون وجود أيّ أفق للديموقراطية فيها. وعلى هذه الخلفية، قد يمكن فهْم ما بدأ يَظهر من تغيير في موقف واشنطن من الخرطوم، لناحية السماح للأخيرة باستئناف مسار التطبيع مع تل أبيب، مع ما يشير إليه ذلك من «قبول» أميركي بالنظام العسكري، وإنْ كانت نغمة تسليمه السلطة إلى المدنيين لا تزال قائمة في العلن.
على أيّ حال، بدا لافتاً في المؤتمر الصحافي لوزير الخارجية الإسرائيلي، والذي بادر إلى عقْده فوْر وصوله إلى تل أبيب، إعلانه أن المعادلة التي تَحكم الاتفاق المنوي التوقيع عليه مع السودان، هي «السلام مقابل السلام»، ما يعني، وفق الأدبيّات العبرية، أن إسرائيل ستتلقّى فوائد التطبيع مع الجانب السوداني، من دون أيّ مُقابل من جانبها. كذلك، برز حديث كوهين عن أنه عرَض نصّ الاتّفاق على السودانيين، واستحصل منهم على الموافقة عليه، الأمر الذي ينبئ بأن الصفقة المنتظَرة هي مجرّد «عقْد إذعان»، يوافق الطرف المُذعِن بموجبه على إرادة الطرف الآخر المذعَن إليه، بلا منازعة أو تسويات.