الخرطوم | منذ اجتماع عبد الفتاح البرهان مع بنيامين نتنياهو في عنتيبي الأوغندية في شباط 2020، بدا واضحاً أن السودان بدأ شقّ طريقه نحو تطبيع العلاقات مع العدو الإسرائيلي، والذي يُفترض أن «يتوَّج» العام الجاري بتوقيع «اتفاقية السلام» على غِرار تلك المبرَمة حديثاً مع الإمارات والبحرين. اتّفاقيةٌ يَظهر جليّاً، من الآن، أنها ستكون أقرب إلى «عقْد إذعان»، يوافق الطرف المُذعِن بموجبه، أي الخرطوم، على إرادة الطرف الآخر المذعَن إليه، أي تل أبيب، بلا منازعة أو تسويات. ذلك أن الحُكم العسكري القائم اليوم في السودان، يكاد لا يهمّه من كلّ عملية التطبيع إلّا الحصول على «درع حماية» يُنيله رضى واشنطن، ويَقيه الأخطار التي استطاع إلى الآن تجاوُز الكثير منها، ويُعفيه من عبء المطالبات بتقاسُم السلطة مع المدنيين. وفي المقابل، تجد إسرائيل في مجرّد إزاحة هذا البلد من مربّع «العداء» ربحاً عظيماً لها، فيما يبدو «مربط الفرس» لدى الولايات المتحدة، التي يمكن التكهّن، على ضوء إعادة تحريك ملفّ التطبيع، بأنها باتت أقرب إلى الاعتراف بمكانة العسكر وأوّليتهم في المشهد السوداني
استقبل رئيس «مجلس السيادة» السوداني، القائد الأعلى للجيش عبد الفتاح البرهان، وزير خارجية دولة الاحتلال الإسرائيلي، إيلي كوهين، في الخرطوم، أوّل من أمس، حيث بحث الطرفان تطبيع علاقاتهما، في خطوة مفاجئة واستباقية لنهاية العملية السياسية التي كان من المفترض، نظرياً، أن تؤدّي إلى تسليم السلطة للمدنيين. وأعلنت وزارة الخارجية السودانية، في أعقاب اللقاء، أنه جرى الاتّفاق على المُضيّ قُدُماً في ملفّ التطبيع، مضيفةً، في بيان، إن المحادثات تطرّقت إلى «تطوير التعاون في مجالات الزراعة والطاقة والصحّة والمياه والتعليم». وتنبئ هذه الزيارة، وما أُعلن خلالها من خطوات ستتّخذ على طريق توقيع «اتّفاقية سلام» مع العدوّ، باستمرار مساعي البرهان لضمان بقائه في المشهد السياسي في المرحلة المقبلة، وخاصة بعدما وقّع على «الاتفاق الإطاري» الذي يرمي، أقلّه على الورق، إلى إبعاد الجيش عن السلطة وإعادته إلى مهامّه الأساسية المتمثّلة في حماية الدولة. كذلك، يُثبت لقاء البرهان - كوهين صحّة التقديرات بعدم جدّية الأوّل في تعهّداته بالانسحاب من العملية السياسية وترْكها للمدنيين، وخصوصاً أنه سبقَ اللقاء تواطؤٌ ضمني من قِبَله مع المساعي المصرية الرامية إلى إلغاء «الإطاري» الذي وُقّع مطلع كانون الأوّل بين «قوى الحرية والتغيير» والمكوّن العسكري، عبر تبنّي القاهرة مبادرة جديدة من شأنها أن تضْمن استمرار الأخير في السلطة. ومن هنا، لا يَستبعد مراقبون دوراً مصرياً في إعادة تحريك ملفّ التطبيع مع العدو في هذا التوقيت بالذات، في محاولة لتأمين درع حماية للعسكر في مواجهة أيّ محاولة لإزاحته، وتحقيق المصالح الإسرائيلية بالطبع، وقطعاً المصرية.
بدا لافتاً عدم اجتماع الوفد الإسرائيلي بقائد «الدعم السريع» الذي تَربطه علاقات وثيقة بدولة الاحتلال


ولم تتأخّر إسرائيل في التقاط «كرت» التطبيع الذي رمى به البرهان، مسارِعةً إلى إرسال وفد عالي المستوى إلى الخرطوم لتسريع إجراءات إبرام اتّفاقية على غِرار «آبراهام» المعقودة مع المنامة وأبو ظبي، ولا سيما أن البرهان كان أوّل مسؤول سوداني رفيع يلتقي رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في شباط 2020 في عنتيبي الأوغندية، وتحدّث يومها عن إمكانية التطبيع بين السودان وإسرائيل. ولم يعترض رئيس الوزراء المدني (المُطاح به) وقتذاك، عبد الله حمدوك، على مبدأ إقامة علاقات مع الدولة العبرية، لكنه رهَن هذا الملفّ بتشكيل سلطة تشريعية (برلمان منتخَب)، على اعتبار أن هذه القضية لا يمكن أن تَبتّها حكومة انتقالية غير منتخَبة. لكن، على ما يبدو، فإن قائد الجيش ماضٍ اليوم في فرْض رؤيته وإرادته حسْم ملفّ التطبيع منفرداً، على الأطراف كافّة، إثر انقلابه على الحكومة الانتقالية في تشرين الأوّل 2021. وفي هذا الإطار، يرى الكاتب الصحافي، عبد الحميد أحمد، أن «البرهان يعتقد أن الإسرائيليين قادرون على أن يكونوا عاملاً فاصلاً في الصراع المحموم على السلطة السودانية». ويضيف أحمد، في تصريح إلى «الأخبار»، إن «قائد الجيش يأمل أن يؤدي اللوبي الصهيوني دوراً في إقناع الإدارة الأميركية بتأجيل ملفّ الانتقال الديموقراطي، وغضّ الطرف عن قِيم الحرية وحقوق الإنسان»، عادّاً استقبال رئيس «السيادي» وزير الخارجية الإسرائيلي، دليلاً على «تراجُع الأيديولوجيا الوطنية نتيجة صعود نخبة سياسية غير مؤتمَنة من المدنيين والعسكريين انسلخت عن الثوابت الوطنية».
وعلى رغم مرور أكثر من 24 ساعة على لقاء البرهان - كوهين، إلّا أن «ائتلاف الحرية والتغيير»، الطرف المدني المُوقّع على «الاتفاق الإطاري»، ظلّ ملتزماً الصمت إزاء ذلك، ولم يَخرج عنه أيّ تعليق رسمي يستنكر اتّخاذ رئيس «السيادي» خطوات ليست من ضمن صلاحياته، أو يتبرّأ من مسألة دفْع عجلة التطبيع مع العدو، أو يوضح ما إذا كان هناك تنسيق مسبَق بشأنها بين الطرفَين. في المقابل، أعلنت قوى سياسية معارِضة رفْضها زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للخرطوم؛ إذ أكد «حزب المؤتمر الشعبي» أن «الحكومة الانتقالية الراهنة، بكلّ مؤسّساتها، لا يحقّ لها اتّخاذ أيّ موقف في القضايا الأساسية والمصيرية»، معتبراً، في بيان، أن «الغرض من المحاولات المحمومة للتطبيع هو أن يظلّ السودان تحت حُكم العسكر بدعم من إسرائيل وحلفائها»، داعياً القوى السياسية إلى «الاصطفاف ضدّ أيّ محاولات لتزوير إرادة الشعب وتجاوُز خياراته».
على أن ما بدا لافتاً، هو إحجام الوفد الإسرائيلي عن مقابلة مَن يمكن وصْفه بـ«رجل إسرائيل في السودان»، قائد ميليشيات «الدعم السريع» ونائب رئيس «مجلس السيادة»، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي نفى، في بيان، علمه بزيارة كوهين، مؤكداً أنه لم يلتقِ الأخير. وأثار ذلك الكثير من علامات الاستفهام، ولا سيما أن «حميدتي» تَربطه علاقات اقتصادية قوية مع دولة الاحتلال، وهو ما قد ينبئ بوجود خلافات غير معلنة بينه وبين قائد الجيش، كانت قد بدأت بالظهور بالفعل بعد إعلان الأوّل، في أكثر من مناسبة، دعْمه الكامل للعملية السياسية واستعداده لدمج قوّاته في الجيش. وظلّ الرجلان، حتى وقت قريب، تَجمعهما مصالح مشتركة في تأمين موقفهما، وضمان توفير الحماية والإفلات من العقاب لهما، وخاصة في ملفّ فضّ الاعتصام وقتْل المتظاهرين.