يرتّب تعرُّض أي بلد في العالم لكارثة طبيعية كبيرة، آثاراً هائلة لا يمكن تجاوزها إلا بمرور سنوات من المعالجة والترميم. لكن، إذا كان البلد الذي حلّت به وبأهله الكارثة، مضروباً أصلاً بزلزال الحرب الأهلية الطويلة، ومهزوزاً باقتصادٍ يحتضر تحت وطأة عقوبات أميركية وأوروبية تكاد تمنع الهواء عن سكّانه، فإن الآثار المأساوية تصبح مضاعفة. سوريا، التي اختبرت المِحن الكثيرة والطويلة، لم تكن يوماً في حالٍ أقسى ممّا هي عليه اليوم، غداة الزلزال الذي ضرب شمالها وشمالها الغربي، ولمّا تستفق من وقع صدمته بعد عيون السوريين الذين لم يعرفوا النوم منذ لحظته. وفيما يحاول هؤلاء لملمة أشلائهم، يجري الحديث عن بداية اتصالات عربية - عربية، وعربية - غربية، من أجل البحث في إمكانية كسْر «القطيعة» العربية مع سوريا، وإيجاد آلية لاختراق العقوبات الغربية عليها. وتنخرط في هذه المبادرة، بحسب مصادر «الأخبار»، دول خليجية، أبرزها الإمارات والسعودية، بالإضافة إلى مصر والجزائر. وبحسب المصادر نفسها، فإن القيادة السورية أجرت أيضاً، خلال اليومين الماضيين، سلسلة اتصالات مكثّفة مع دول عربية لإحداث خرق في جدار العقوبات، عبر إعلان دمشق حاجتها إلى كلّ أنواع الدعم، لتبادر تلك الدول إلى تلبية ندائها، بدافع إنساني إغاثي، بعيداً من السياسة. وحتى ليل أمس، كانت عدة طائرات إيرانية وعربية، قد وصلت إلى سوريا، حاملة مساعدات إنسانية وإغاثية وطبّية، مع وعود بتقديم هذه الدول المزيد من المساعدات خلال الأيام المقبلة.
العقوبات تعمّق آثار الكارثة
يحظر قانون «قيصر» (الساري اعتباراً من حزيران 2020)، تقديم المساعدات الخارجية الأميركية إلى الحكومة السورية، كما يفرض على الإدارة الأميركية «معارضة الدّعم الذي يمكن أن تقدّمه المؤسسات المالية الدولية إلى سوريا»، كـ«البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي». كذلك، يسلّط القانون عقوبات على الشركات غير الأميركية التي تدعم أو تشارك في تعاملات كبيرة مع الشركات، أو الأفراد، أو الكيانات السورية الخاضعين للعقوبات، وما أكثرهم، بدءاً من الأجهزة الحكومية، وصولاً إلى غالبية الشركات العاملة في سوريا. أيضاً، تفرض الحكومة الأميركية عقوبات على الشركات غير الأميركية التي تقدّم خدمات ملحوظة في مجال البناء والهندسة إلى الحكومة السورية، وهو ما أدّى إلى ترهّل البنى التحتية في سوريا، منذ ما قبل الحرب، ثمّ أتت الحرب لتقضي عليها بشكل شبه كامل. أمّا دول الاتحاد الأوروبي، فتفرض قيوداً على مجمل الاستثمارات، وعلى المساعدات الحكومية التي يمكن توفيرها، وأيضاً على الاستثمار في صناعة مشاريع توليد الطاقة، أو توفير القروض والتسليفات لها.
وقد أنهكت هذه العقوبات المتنوّعة والمتزايدة، الاقتصاد السوري إلى حدّ بعيد، خصوصاً مع سيطرة التنظيمات الكردية المسلّحة، المدعومة غربياً، على حقول النفط والغاز في الشرق، ما حرم الحكومة من موارد مالية كبيرة. وفضلاً عن تأثيره على الحياة اليومية للسوريين، كانت أبرز نتائج الحصار الغربي، إضعاف الاستثمار في إعادة إعمار البلاد، حيث منعت العقوبات توفير التمويل الحكومي لهذه العملية، ولو جزئياً على مستوى الترميم مثلاً. ولذا، فإن جزءاً كبيراً من المنشآت السكنية والصناعية والزراعية والحكومية، بقيت واقفة بفعل «الحظّ» فقط، إذ عانت من تشوّهات وتصدّعات كبيرة، وصارت سُكناها محظورة وخطيرة وفق الشروط المعتمدة في أي بلد في العالم. يُضاف إلى ما تَقدّم، قيام الكثير من السوريين ببناء منازل لهم بأيديهم، بعيداً من معايير السلامة، بسبب غياب الإعمار الحكومي، ما أضاف مباني هشّة إلى تلك الموجودة. وفي لحظة لم تكن في بال أحد، جاء الزلزال المدمّر، فانهارت تلك الإنشاءات وغيرها على رؤوس قاطنيها الذين دُفنوا تحت ركامها، فيما بدا واضحاً أن أكثر المناطق تضرراً، هي التي شهدت معارك كبيرة وطاحنة دمّرت مبانيها جزئياً، كمدينة حلب، أو التجمعات السكانية التي نشأت في السنوات الأخيرة في المدن والأرياف ليسكنها النازحون.
لو توافرت الإرادة الغربية، يمكن تخصيص «قناة إنسانية» لإفساح المجال أمام المساعدات


نوافذ قانونية و«استثناءات» عقيمة
مع أن قانون «قيصر» يقيّد قدرة السلطة التنفيذية الأميركية على رفع العقوبات عن سوريا، فإن الرئيس الأميركي يتمتع بدرجة من المرونة في ما يتعلّق بتفسير بعض جوانب العقوبات المنصوص عليها في القانون. وبالتحديد، بحسب بحث صادر عن «مركز كارتر» الأميركي، يمكن الإدارة «تخفيف العواقب غير المقصودة، وبالتالي إتاحة أنشطة معيّنة تصبّ، بحسب الولايات المتحدة، في مصلحتها الوطنية». ويضرب التقرير مثالاً، «أنواعاً معينة من المشاريع الإنسانية لا تشكّل تعاملاً «كبيراً» مع الحكومة السورية»، وبالتالي تصبح خارج مساحة العقوبات. والأمر شبيه بالنسبة لعقوبات الاتحاد الأوروبي، حيث يمكنه رفعها بموافقة كافة الدول الأعضاء فيه، أو تعليق العمل بها، أو تقليصها.
وبموجب قوانين العقوبات الأميركية المختلفة، فإن واشنطن تقدّم ترخيصاً عاماً لـ«المنظمات غير الحكومية» كي تتمكّن من المشاركة في بعض الأنشطة الخيرية في سوريا، بما في ذلك «توفير الإغاثة الإنسانية للشعب السوري، والخدمات التعليمية، والمشاريع التنموية غير التجارية التي تعود بالمصلحة». كما تفسح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المجال أمام منح تراخيص واستثناءات معينة، عندما يتعلق الأمر بالسلع، والخدمات، والمشاريع التي تعود بالفائدة على بعض جماعات المعارضة السورية المنحازة إلى الغرب. لكن هذه التراخيص تحتاج إلى موافقة وفقاً لكل حالة على حدة، كما تُمنح عادة لـ«الائتلاف السوري»، وليس للجماعات الأخرى. لكن، بحسب بحث «مركز كارتر»، «يبقى صعباً على الشركات والمنظمات غير الحكومية نقل مبالغ كبيرة من الأموال نحو سوريا وخارجها، حتى وإن كانت التدفّقات المالية متعلقة بأنشطة أساسية مرخصة، كالإغاثة الإنسانية». ومع ذلك، وعلى رغم إمكانية تفعيل تلك الاستثناءات اليوم، لم تجد الإدارة الأميركية والدول الأوروبية، في المأساة الهائلة التي يعانيها السوريون المنكوبون، بعد، ما يدفعها إلى إقرار إجراءات استثنائية من النوع المذكور.

إنشاء «قناة إنسانية»
في حالة سوريا اليوم، لو توافرت الإرادة الغربية، يمكن تخصيص ما يمكن تسميته بـ«قناة إنسانية» خاصّة، لإفساح المجال أمام تدفّق مساعدات محدّدة إلى سوريا. وهذه القناة «قانونية»، وفق تقرير «مركز كارتر»، ولا تحتاج من الدول المعاقِبة إلى إلغاء قوانين العقوبات بشكل كامل. لكنها تحتاج لتأمين نجاحها إلى ركائز أساسية:
- تأمين مصدر تمويل لشراء السلع الإنسانية و/أو تقديم المساعدة. ويكون هذا عبر تقديم قروض خارجية إلى الحكومة السورية، أو عبر رفع العقوبات عن سلع محدّدة، ليتسنّى للحكومة والشركات الخاصة استيرادها.
- إنشاء آلية قانونية، عبر تراخيص خاصة، لتأمين تدفّق المال إلى داخل سوريا وخارجها، بالنظر إلى أن العقوبات تطاول «مصرف سوريا المركزي» ومعظم المصارف الكبرى.
- الحصول على تطمينات من الحكومة السورية، بأن السلع الإنسانية و/أو المساعدات لن تعود بالفائدة على الكيانات المشمولة بالعقوبات.
وفوق كل هذا، وما قبله وبعده، تحتاج هذه القناة لكي تكون فاعلة، إلى دعم أميركي، ولو كان صامتاً وغير مباشر.



السعودية نحو خرق الحصار؟
في ما قد يؤشّر إلى إمكانية حدوث خرق في جدار الحصار المفروض على سوريا، قد يمهّد لمساعدتها في تجاوز آثار الكارثة التي حلّت بها، ذكرت وكالة «واس» السعودية الرسمية، مساء أمس، أن الملك سلمان ووليّ عهده محمد وجّها «مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية»، بـ«تسيير جسر جوّي وتقديم مساعدات صحية وإيوائية وغذائية ولوجستية لتخفيف آثار الزلزال على الشعبين السوري والتركي، وتنظيم حملة شعبية عبر منصة "ساهم" لمساعدة ضحايا الزلزال» في البلدَين.
وكانت الرئاسة المصرية أعلنت أن الرئيس عبد الفتاح السيسي أجرى اتصالاً هاتفياً مع نظيره السوري، بشار الأسد، أبدي خلاله تضامن بلاده الكامل مع الشعب السوري، مؤكداً إصداره توجيهات «بتقديم كافة أوجه العون والمساعدة الإغاثية الممكنة في هذا الصدد». وفي وقت لاحق، أفيد عن إرسال مصر 5 طائرات عسكرية محمَّلة بمساعدات طبية عاجلة إلى سوريا وتركيا. وفي الإطار نفسه، أجرى الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، مكالمة هاتفية بالأسد، أبلغه فيها «وقوف الجزائر إلى جانب الشعب السوري الشقيق، ومساهمتها في التخفيف من هذه المحنة» التي يمرّ بها، فيما أعرب الأسد عن تقديره الكبير لـ«التضامن المتأصل في الشعب الجزائري، لا سيما وأن الجزائر أوّل من استجاب لنداء المساعدة».