غزة | في غزّة، ثمّة من ينحي فلسطينيته جانباً ويسعى إلى التربّح من وراء معاناة الناس. لا يهمّه إن كان الموت يلتهم مزيداً من البشر، في مقابل أن تطفح جيوبهم بالمال، وإن كان ذلك على حساب النازحين الذين ضاقت الحياة بهم فافترشوا المدارس والكنائس، بعدما صارت المساجد والمستشفيات ملجأ غير آمن.
بغض النظر إن كان هؤلاء كثراً أم قلة، فصور التكافل الشعبي والفصائلي وحتى الديني هي القاعدة في قطاع غزة، لكن ذلك لا يمنع من تسليط الضوء على بعض «أمراء الحرب» الذين لا يقيمون وزناً لتضحيات الناس من حولهم، إلى أن يصيبهم جزء من المأساة فيشعروا بما آلم الناس. وليس أسوأ على الناس من أن يستغلّهم التجار وأصحاب المصالح، وخاصة في مقومات الحياة فيرفعوا أسعار العقارات والسوق على ضوء الطلب الكبير.
هذه الانتهازية كانت لافتة في خان يونس جنوب القطاع، بعدما عاشت بلدة خزاعة شرق المحافظة أياماً صعبة على وقع القصف المدفعي العنيف، ما دفع من نجا من أهلها إلى الخروج منها أفواجاً باتجاه غرب المحافظة، ليعضّ بعض التجار نواجذهم على فرصة التكسّب الماديّ من وراء موجات النزوح من دون اعتبار إلى أن معظم النازحين لا يحملون أموالهم بعدما هربوا بأعجوبة، فضلاً على أن من له شيء من المال يصعب عليه الحصول عليه في ظل إغلاق البنوك.

معظم السلع والعقارات تضاعفت أسعارها ثلاثة أمثال
عن السابق
كسرت حالة الاستغلال خاطر النازحين، كما خلقت حواجز نفسية بينهم وبين تجّار الحرب. اضطر كثيرون إلى استئجار شقق سكنية، لكن ما لم يكن في حسبانهم امتناع «الأمراء» عن تأجيرهم بالسعر المعتاد داخل المدن (500 شيقل: 140 دولاراً).
من هؤلاء الشاب أحمد قديح الذي خاض رحلة متعبة في البحث عن شقة تؤوي عائلته الكبيرة، لكن هذه الرحلة انتهت دون أن يحصد ثمارها، لتكون النتيجة مزيداً من التشتت والتشرّد، إذ توزّع أفراد العائلة على منازل بعض الأقرباء والمدارس. يقول قديح لـ«الأخبار» باستنكار كبير: «لا أعلم ما الهدف من كل هذا الاستغلال البشع. أين نذهب بعائلاتنا بعدما وصل الإيجار إلى أكثر من 1500 شيقل (420$)؟». ويواصل حديثه: «بشقّ الأنفس نتمكّن من الاطمئنان على من بقي في البلدة، لذا يبقى بالنا مشغولاً وليس هناك متسعٌ لتقديم الشكاوى ضد تلك الفئة التي تملأ جيوبها على حساب ألمنا».
لم يتوقّف الاستغلال على العقارات السكنية، بل طال السلع الأساسية، حتى وصل الأمر إلى المتاجرة بالمياه ومضاعفة سعرها على نحوٍ كبير نظراً إلى انقطاع مياه البلدية عن المحافظة، فرفعوا سعر خزان المياه 1000 ليتر من 17 شيقل إلى نحو 50 (5$-14$)، كما تضاعف سعر زجاجة المياه المعدنية الصغيرة ثلاثة أمثال.
يقول أحد النازحين، ويدعى فادي أبو رجيلة، إن ما يدفعهم إلى الشراء من الخارج هو الأوضاع المأسوية في مدارس وكالة الغوث «الأونروا»، «ففتات الخبز الذي تقدّمه الوكالة لا يفي حاجة العائلات، ما يدفعنا إلى الشراء من المحال وإن كان سعرها ثلاثة أضعاف السعر السابق». ويضيف لـ«الأخبار»: «حتى أسعار المواصلات ارتفعت على نحو غير مسبوق».
رغم ذلك، لا يمكن تجاهل أن ارتفاع بعض أسعار الخدمات والسلع ناجم عن حالة الحصار الشديدة المترافقة مع الحرب التي طالت أكثر من ثلاثة أسابيع، لكن هناك بعض التجار الذين يتعمّدون إخفاء بضاعتهم ورفع أسعارها من باب الاستغلال المباشر والواضح. لذلك، سعى أبو رجيلة إلى ردعهم عبر تبليغ الجهات الحكومية المعنيّة عنهم، لكن الشرطة لم تستجب لنداءاته، وما كان منها إلا الرد: «مش شايف كيف الوضع؟ دبّر حالك»، ما دفعه إلى الترديد: «يا رب ما تطعمني أي ولد وإحنا بهالحال المكسور!».
في مدينة غزّة، لا تختلف الحال كثيراً عن بقيّة المحافظات؛ فبعدما نزح سكان المناطق الشرقية إلى الوسط، حرم تجار الحرب النازحين من العيش في شقق سكنية لأنهم رفعوا أسعار الإيجار إلى أكثر من 500 دولار ليتيحوها للمقتدرين ماديّاً وبعض الصحافيين الأجانب.
عائلة عياد من حي المنصورة في الشجاعية خاضت تجربة مريرة في محاولة الاستئجار بعدما دمر الاحتلال منزلين لها بصاروخ إف 16 والقذائف المدفعية، فاحتمت العائلة المكوّنة من 98 فرداً في منزل ابنتها صابرين في المدينة. تقول صابرين عياد: «نحن متكدّسون فوق بعضنا بعضاً، وننام على بلاط الشقة. لا أغطية تكفي الموجودين... صرنا اليوم أشخاص في شقتي التي لا تتعدّى مساحتها 150 متراً». وتضيف لـ«الأخبار» بصوت مرهق: «حاولت عائلتي تخفيف العدد والاستئجار، لكن صاحب أحد الأبراج طلب منها 600 دولار مقابل شقة ضيقة للغاية لمدة 15 يوماً فقط». في المقابل، يتذرع أصحاب العقارات بأنهم يخشون تأجير من قصف بيته خوفاً من أن يكون هناك مطلوبون يتسببون بقصف شققهم مجدداً. أيضاً على صعيد الحوالات المالية، فهي تشهد الاستغلال نفسه، وخاصة بعدما وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 3 شواقل بدلاً من 3.5 لقلة محال الصرافة.
أما وزارة الاقتصاد في غزة، فتؤكد أن طواقم حماية المستهلك منتشرة في المحافظات منذ اليوم الأول للعدوان. وقال المتحدث باسم الوزارة، عبد الفتاح أبو موسى، لـ«الأخبار»: «طبّقنا خطة طوارئ أعدّت قبل الحرب، فوزّعت طواقم التفتيش في خمسة مكاتب فرعية لمراقبة أسعار المواد الغذائية والتأكد من سلامتها ومنعاً لللاحتكار في هذه الأوقات القاسية».
أما عن استقبال شكاوى المواطنين، فيجيب أبو موسى: «أرقامنا مفتوحة على مدار الساعة. ونسارع إلى التأكّد من صحة أي شكوى، وإحالتها إلى الشؤون القانونية لتتخذ النيابة إجراءاتها اللازمة»، لكن العقارات السكنية، وفق قوله، فمهمة مراقبتها «على وزارتي المالية والإسكان بالدرجة الأولى»، لكن ظروف الحرب تمنع جزءاً كبيراً من الطواقم من الحركة، وهو ما لفت إليه نازحون كثيرون.