لم ينته العدوان بعد، أو الحرب. حتى التسمية وقعنا في فخها، لأن تجزئة ما بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، إن سلمنا بانتهائها، إلى حروب مع إغفال الهجمات الإسرائيلية المتتالية على مدار الأعوام الماضية، فيها قطع للسياق السليم. تماماً مثلما يجري قطع السياق في قضايا أخرى لا تقل أهمية مثل مفهوم الحرب على حركة «حماس»، أو مفهوم الحرب على المقاومة ومشروعها وحاضنتها الشعبية.
يتعمد الإعلام الإسرائيلي، وبعض الإعلام العربي، والأخير من قصد أو غير قصد، تعميم مصطلح الحرب حصراً على «حماس»، والهدف ضرب أكثر من عصفور بهذا الحجر. هو يريد أن يقول إنه يستهدف جزءاً من منظومة الإخوان المسلمين الدولية كي يؤكد الشرعية العربية الرسمية التي يتلقاها في عدوانه، بل حتى الشعبية أخيراً، بسبب آثار ما سمي «الربيع العربي». أيضاً هو يحاول زيادة الفجوة بين فصائل المقاومة، ويساعده في ذلك قلة الإشارة الإعلامية إلى جهود الفصائل الأخرى.
عربياً، من يتعمد استخدام «الحرب على حماس» يهدف إلى تبرير ما يجري، بل القول إن أبناء الشعب الفلسطيني «ضحايا حماس ومخططاتها وتحالفاتها»، ومن غير قصد يتحدث بعض من لا يملكون المعرفة جيداً بالساحة الفلسطينية وتركيبتها وكيفية توزيع الأدوار فصائلياً، خاصة أن «حماس» امتنعت في جولات سابقة عن المشاركة في الرد وتركت المواجهة لفصائل أخرى.
في ظل هذا اللغط، لا بد من إعادة التركيز على أن الاستهداف الإسرائيلي طاول كل الحياة الفلسطينية في غزة، بدءاً من جميع فصائل المقاومة الصغيرة والكبيرة، وصولاً إلى الأهداف الحكومية وحتى المدنية والدولية. لذلك إن افترضنا مصطلح العدوان، أو الحرب، أو أياً كان، فهي هجمة صهيونية ـ أميركية على «كل الفلسطينيين»، وهو ما يوضح سبب اعتماد سياسة المجازر طوال أيام الحرب.
لكن من هي المقاومة؟ لنعد التذكير بأن على الإعلام الفصائلي الفلسطيني، وخاصة التابع لـ«حماس»، وحتى العربي، إعادة دراسة ما يقدمه إلى جمهوره الفلسطيني أو العربي. ولعل في التجربة اللبنانية خير فائدة: لم يكن عملياً في الميدان خلال حرب عام 2006 سوى حزب الله في مواجهة إسرائيل، لكن الإعلام التابع له كان دوماً يركز على استخدام مصطلح المقاومة كمفهوم شامل لكل الرد الذي يجري بغض النظر هل كانت هناك أطراف أخرى تعمل في ذلك اليوم بالتنسيق معه أو لا، وهو ما يجب أن يكون موحداً في الصياغة الإعلامية للتعاطي مع غزة، إذ أصبح هذا ضرورياً في ضوء التركيز على فصل «حماس» عن المقاومة أو الشعب إعلامياً.
ومن بدهيات المهنة أنه حين إذاعة بلاغ عسكري على الإعلام أن تعرّف الجهة المنفذة، لكن في صياغة التحرير والسياسة الإخبارية من المفيد التركيز على مصطلح المقاومة إلى جانب التغطية الشاملة حتى لو نفذ فصيل صغير، أو جديد، عملية قنص أو إطلاق قذيفة هاون. وهذا يعالج إشكالية تحسس بعض الأطراف من تكرار اسم «حماس» المرتبط بمشكلتي الإخوان وسوريا.
يمكن بهذا الأسلوب إحباط الحبكة الإعلامية التي صورت المعركة منذ بدايتها على أنها حرب بالوكالة، بين محور إخواني (تركيا ـ قطر) ومحور معادٍ للإخوان (مصر ـ السعودية) تخوضها حماس، وإسرائيل نيابة عن العرب الذين يتكفلون بالإغلاق على غزة وتمويل الحرب. مع أنه لا يمكن إنكار النقطة الأخيرة (الإغلاق والتمويل)، لكن لا يمكن تصور أن إسرائيل تعمل لدى العرب، بل هي تستفيد من خلافاتهم لتعوض إخفاقها في الميدان.
مع ذلك، قيل إن لدى الدوحة وأنقرة فرصة كبيرة للعودة إلى المنطقة بعد النكسة الكبرى التي أصابت تحالفهما مع «مصر مرسي» بعدما صارت «مصر السيسي»، لكن الجغرافيا تفرض أن تبقى القاهرة مربع الربط لجهة وجود حدودها بمحاذاة غزة وتحكمها بأهم معبر للفلسطينيين في المرحلة الماضية.
تأسيساً على ذلك، لا يمكن إنكار أن لـ«حماس» حساباتها السياسية، كذلك لا يمكن «قطع السياق» مجدداً بفصل غزة والقضية الفلسطينية عما يجري في الإقليم إن لم يكن جزء كبير مما يحدث قائماً أصلاً لتغييب القضية أو تحويلها إلى لا مركزية، وهو ما عادت الحرب إلى إرجاعه إلى المربع الصفر، لكن إدخال حالة المقاومة في هذا المربع السياسي سيجعل فلسطين جزءاً من لعبة الإقليم مجدداً، ما يعني أنه أسوأ مصير يمكن أن تصل إليه نتائج هذه الحرب.
يمكن الإشارة جلياً هنا إلى أن أطرافاً فلسطينية فعالة كالسلطة ممثلة بمحمود عباس انتبهت إلى هذه القضية وأصرت على بقاء مصر المحور الأساسي للحل، وإن كانت خطوته لاعتبارات دبلوماسية واضحة، لكن «الجهاد الإسلامي» التي لا تمتلك أي فوائد سياسية مباشرة كـ«حماس» و«فتح» شعرت بخطر جر الموضوع الفلسطيني إلى خانة التجاذب بين الأطراف العربية المتعادية، وأعادت تأكيد أنها مع الدور المصري، لكن في إطار ما يخدم المقاومة.
في النهاية، لا يمكن الحكم على أن هذه الجولة هي الأخيرة، وأن أي اتفاق سيضمن ألا تعتدي إسرائيل على غزة مباشرة، خاصة أن الاتفاق قد لا يشمل ما يتعلق بالاعتداءات في الضفة والقدس المحتلتين والأراضي المحتلة عام 1948، وهو ما لا يمكن المقاومة في غزة أن تصمت عليه طويلاً، خاصة إن تذكرنا أن فتيل هذه الحرب أشعل في الضفة ثم تدحرج إلى القدس والداخل وصولاً إلى ما وصلت إليه.
ولحماية ما يمكن المقاومة اعتباره «إنجازاً» من المهم أن تتفق المقاومة، والأطراف الداعمون لها، على اعتبار المقاومة خطاً واحداً يجمع كل الأطراف، وهو ما حملته إشارة اللواء الإيراني قاسم سليماني في رسالته حينما ذكر التنظيمات الفلسطينية اسماً اسماً. وكما كان التنسيق سيد الموقف في «هدن الساعات» التي عقدت خلال الحرب الأخيرة وظهر فيه الانضباط العالي والهيكلة والسيطرة في الميدان، يجب أن يكون ذلك مدخلاً إلى توحيد الكلمة وإعادة رسم السياسة الإعلامية بما يخدم فلسطين أولاً، ومحور المقاومة ثانياً.