يبدو أن جدتي سودة كانت متيقنة من أنها لن تستعمل مفتاح دارها في كويكات مرة أخرى. كانت واثقة أن خروجها وجدي حيدر من القرية مع طفلتيهما في ذلك اليوم المشؤوم ليس خيراً على الإطلاق! على عكس بعض سكان القرية الذين ساروا باتجاه الحدود الفلسطينية اللبنانية في ظلام تلك الليلة. فهم كانوا مقتنعين، الى حد ما، بأن الأمور ستعود الى حالها الطبيعي بعد أسابيع قليلة. لا أعلم إن كانوا فعلاً قد صدقوا الخبر كما هو أم أنه لم يكن أمامهم خيار آخر سوى ذلك.
من الواضح جداً وباعتراف جدي حيدر كما أكثرية الفلسطينيين الذين هاجروا مرغمين يومها، أنهم علقوا آمالهم على الجيوش العربية. تماماً كما علق ابن جارنا محمد آماله على أخيه الأكبر سناً، اعتقاداً منه أنه لن يخذله وسيحميه من الولد المشاكس الذي توعد بضربه بعد انتهاء دوام المدرسة. كانوا بانتظار أن ينتصر جيش الإنقاذ العربي، أن يفي بوعده باسترجاع القرى من الصهاينة الغزاة خلال أسابيع. لم يروا أنفسهم كمهجرين في الأشهر الأولى، اعتبروا أن المال وقطع الحلى الذهبية التي نجحوا في إخراجها من ديارهم ذلك اليوم، ستكفيهم العيش بكرامة ريثما يعودون. تماماً كما فعل جد الشاعر الراحل محمود درويش حينما لم يعتبر الأمر هجرة، بل سفر مؤقت، الى أن صرفوا كل أموالهم المدخرة وتحولوا حينها الى "مهجّرين".
كان صعباً جداً على جدي الثاني، مختار قرية اللزازة أن يقبل تسمية "مهجر" في بلد شقيق مثل لبنان. لم يصدق أنه سيقف في طابور طويل ليحصل على رغيف خبز. حاول كغيره من الرجال التسلل الى الداخل، بعضهم نجح فيما فشل البعض الآخر. حث أبناءه الصغار على العمل معه كي لا يقفوا في الطابور مرة أخرى. لكن الأكثر صعوبة عليه كان عندما أدرك أنه لم يعد هناك ما يسمى ديوان المختار في القرية، وهو نفسه لن يعود الى هناك بعد مرور سنتين على هذه الحال. مرض وقتها ولازم الفراش شهراً الى ان قامت زوجته (المختارة) بحثّه على نفض الحزن واستبداله بالغضب. فالحزن يضعفنا أما الغضب فهو طاقة تدفعنا للتحرك ورفض الواقع التعيس. وفعلاً، علق المختار مفتاح الديوان على حائط الغرفة وعاد الى العمل.
لكن الأمر مختلف بالنسبة الى جدتي سودة التي منذ اليومين الأولين أدركت تماماً أنها لن تعود الى دارها، بالرغم من محاولات جدي حيدر إقناعها بأنهم حتماً سيرجعون. فقد وضعت المفتاح الحديدي في صندوق خشبي وخبأته في خزانتها. الأمر الذي خلق شجاراً بينهما، فهو أراد أن يبقيه أمام عينه، معلقاً كما هو دون غلاف. وعندما علم أنها كانت تعد حفرة صغيرة في أرض البيت لتضع فيها المفتاح، جن جنونه. اعتبر أنها وضعت دار كويكات وراءها، وأنها تخلت عن أمل الرجوع. صاح بها غاضباً حتى صفعها من دون أن ينتبه لنفسه ماذا يفعل. انكسر شيء بينهما لم يكن الزمن كفيلاً بإصلاحه حتى اليوم.
لم تخبره سودة لماذا فعلت ذلك. لماذا أرادت دفن المفتاح في الأرض. لم تشرح له أنها لا تحب المخيم ولم تحبه يوماً على عكس ما كان يعتقد هو. فقد كان صباح كل يوم جديد يذكرها بالتهجير والقهر ويبعدها عن البارحة، حينما كانت سيدة دارها وأرضها في كويكات.