جدّد خطاب رئيس «مجلس السيادة» السوداني، عبد الفتاح البرهان (21 الجاري)، في مدينة بارا في ولاية شمال كردفان، إثارة العديد من القضايا الخلافية التي تعوّق المرحلة الانتقالية برمّتها، منذ إطلاقها قبل نحو أربعة أعوام. كما كشف الخطاب عن نيّة تمديد هذه الفترة 24 شهراً آخر بعد تكوين حكومة مدنية (11 نيسان المقبل)، بمقتضى التزامات وتوقيتات تعهَّد بها البرهان، معلِناً العكوف على صياغة اتّفاق سياسي «نهائي» سيُوقَّع مطلع نيسان، الذي سيشهد أيضاً توقيع ما أَطلق عليه «دستوراً انتقالياً جديداً». وإذ لم تسبق هذا الاتّفاقَ المباغت أيّ عملية تشريعية واضحة، فقد يؤكّد ذلك فرضيّة صياغته بإملاءات فوقية لن تُوفّر له فرص النجاح
استحقاقات نيسان: تسوية اللحظات الأخيرة
بدت، بعد ثلاثة أشهر تقريباً من توقيع أطراف سودانية «الاتّفاق السياسي الإطاري» مع القادة العسكريين، فُرص نقل السلطة إلى حكومة مدنية أكبر، عندما أعلن خالد يوسف، الناطق باسم العملية السياسية (19 آذار)، الاتّفاق على توقيع دستور انتقالي مطلع نيسان، وتكوين لجنة من 11 عضواً لصياغة «الاتّفاق السياسي النهائي» (وتوقيعه في 1 نيسان)، على أن يمثّل القوى المدنية في التوقيع عليه 9 أعضاء، إضافة إلى ممثّل للجيش وآخر للقوى شبه العسكرية (الدعم السريع). وإلى جانب رمزية مساواة تمثيل الجيش بالقوّات شبه العسكرية، والتي توحي باختلال كبير في تصوُّر عمل اللجنة، فإنّ اقتصار صياغة الإعلان على الأغلبية المُشار إليها (ومعظمها من «الحرية والتغيير - المجلس المركزي») لا يعني إلّا محصّلة واحدة، وهي تعميق الاستقطاب السياسي في البلاد عبر فَرض تسوية «اللحظات الأخيرة» التي تقفز فوق استحقاقات منطقية (مِن مِثل توسيع قاعدة وضْع الدستور الانتقالي وطرْح مناقشات شعبية حوله)، وتكريس الإقصاء السياسي الذي حذّر منه البرهان في خطابه بلهجة «تهديدية» واضحة. وفي هذا الإطار، اتّهمت «قوى الحرية والتغيير - الكتلة الديموقراطية»، والتي تعاظمت الضغوط الدولية عليها للانخراط في التسوية المُحدَّدة سلفاً، القائمين على العملية بمحاولة الانفراد بالسلطة.
ويبدو من السياقات الراهنة والخطوات المتسارعة أن خريطة طريق «أممية» قد اكتملت أركانها بمنأى عن الواقع السوداني؛ إذ أُعلن عن مواعيد التوقيع على الدستور الانتقالي وتشكيل الحكومة المدنية وما إلى ذلك، بالتزامن مع إفادة فولكر بيرتيس أمام مجلس الأمن الدولي (20 آذار)، وتأكيده اقتراب التسوية أكثر من أيّ وقت مضى، على «رغم التحدّيات القائمة»، وأهمّها تفكيك النظام القديم، وتطبيق «اتّفاق جوبا للسلام»، وإصلاح القطاع الأمني، ما يشير إلى فجوة واضحة في تصوُّر بيرتيس للتسوية كاستحقاق يتجاوز هذه «التحدّيات». فجوةٌ لن تقود إلّا إلى إعادة إنتاج أزمة أكثر استحكاماً، ومُهدَّدة بالعودة إلى أجواء العنف والصراع المسلّح في شرق السودان ومناطق في إقليم دارفور، فضلاً عن إثارة سخط سياسي وسط قطاعات قبلية وإسلامية على خلفية المبالغة في إقصائها من عملية الانتقال (سواء في المشاورات الأوّلية أو في التوقيع على «الاتفاق النهائي» على سبيل المثال)، وما يترتّب على هذا الإقصاء مستقبلاً من تشويه لمجمل المرحلة الانتقالية، وتهشيم لجدّية استحقاقاتها الانتخابية المزمعة، والتي لوّح بها البرهان في خطابه.
وبغضّ النظر عن التلاسن السياسي بين القوى السودانية في هذه المرحلة، وغياب تيّار وسط رئيس يمكن أن يسعى في تحقيق توافق، فإن قيادات في «الكتلة الديموقراطية» استشرفت بدقّة مآلات العملية المتعجّلة، معتبرةً أنها ستنتهي إلى تكوين حكومة أقلّيات «ستقود البلاد إلى مزيد من الاختلال والأزمات»، وأن «هذه المجموعة الصغيرة المتحالفة مع العسكر» (وهي الاتّهامات نفسها التي تطال الكتلة الديموقراطية من قِبَل تحالف المجلس المركزي) تعمل على تشكيل سلطة ستكون هي الأفشل في تاريخ السودان (وربّما أقصرها أجلاً).
السودان مُقبل على تمديد مألوف لمرحلة انتقاليّة فقدت دلالتها


إشكالية الجيش وقطاع الأمن
ركّز البرهان في خطابه على هدف تأسيس جيش «لا يتدخّل في السياسة مستقبلاً»، داعياً المدنيين (القوى السياسية) إلى التوقّف عن محاولة استمالة العسكريين إلى صفوفهم، وواعداً جموع السودانيين بمرحلة جديدة وحدوث «انتقال مُرضٍ للجميع». وبدت أفكار البرهان هُلامية للغاية، بحسب ما أشار إليه عدد كبير من المراقبين السودانيين، في ضوء عدم واقعيّتها، ومُناقضتها لِمَا ورد في حديث الرجل نفسه حول أهمّية دور الجيش في توفير غطاء عسكري للقوى السياسية التي لا تملك مِثل هذا الغطاء في المرحلة الانتقالية، التي يُتوقَّع أن تستمرّ لعامَين آخرَين بعد نيسان، لتنتهي في عام 2025. ولَربّما دلّ على هذه التصوّرات الملتبسة والمتسرّعة، ما تَقرّر في 22 آذار من تأجيلٍ لـ«ورشة الإصلاح الأمني والعسكري» (قبل موعد انطلاقها بأقلّ من 24 ساعة فقط) على خلفيّة طلب مزيد من المشاورات والتحضير، علماً أن تلك الورشة مكلَّفة بالوصول إلى اتّفاق، ومن ثمّ طرْحه على القوى المدنية «لدراسته والتوافق عليه»، وهو مسار يبدو متعارضاً بشكل كبير مع التعجيل في تبنّي دستور انتقالي وتكوين حكومة مدنية من دون دراسة كهذه أو توافق كهذا.
كما جاءت استجابة حركتَي «العدل والمساواة» برئاسة جبريل إبراهيم، و«تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، وبدعم واضح من مكوّنات «الحرية والتغيير - الكتلة الديموقراطية»، تجاه التطوّرات الأخيرة، لتؤكّد أن التسوية تتمّ على عجل، وبمنطق اللحاق باللحظات الأخيرة، بغضّ النظر عن متانة أسس المقترحات المطروحة وجدّيتها وقابليّتها للاستدامة. وعلى رغم اعتبار فولكر، في إفادته المشار إليها، أن مواقف إبراهيم ومناوي (والقوى الداعمة لهما) تتعلّق بالأساس بالضغط لضمان محاصصة ملائمة في السلطة وليست رفضاً لـ«هياكل الانتقال»، وما سرّبته صحف سودانية على لسان موالين لـ«المجلس المركزي» ممّا وُصف بـ«خطّة الكتلة الديموقراطية المسبَقة لتقويض العملية السياسية في السودان عبر إثارة التمرّد في شرق السودان وأعمال عصيان مدني وشغب»، فإن رؤية الكتلة المُشار إليها والحركات المسلّحة المُوقِّعة على «اتفاق جوبا للسلام» اتّسقت بشكل كبير مع أفكار البرهان، ولا سيما ضرورة استبعاد سياسات الإقصاء لضمان مرحلة انتقالية «حقيقية»، بحسب وصْف رئيس «السيادي» نفسه.
على أيّ حال، لا يُتوقَّع، بشكل عام، أن تَحسم «ورشة الإصلاح الأمني والعسكري»، التي أُعلن عن مشاركة أكثر من مئتي ممثّل للجيش وقوّات «الدعم السريع» والقوى المدنية وجهات أخرى فيها، ملفّ العلاقات العسكرية - الأمنية، ووضْع الجيش في المرحلة الانتقالية المتبقّية، وكذلك ما وصفه البرهان بالتحوّل إلى «جيش مهني»، في ظلّ تمترس قائد «الدعم السريع» ونائب رئيس «مجلس السيادة»، محمد حمدان دقلو، خلْف رفْضه المساس بقوّاته أو دمْجها في التشكيلات المسلّحة النظامية، وهو موقف يؤيّده فيه بقوّة عدد من الدول الخليجية ولا يُتوقّع تَغيّره في المدى المتوسّط على الأقلّ.

مرحلة انتقالية حقيقية؟
أثار خطاب البرهان الأخير شكوكاً كثيرة، ليس حول جدّية ما تمّ إنجازه على الأرض في السودان منذ عزل الرئيس السابق عمر البشير فحسب، بل أيضاً نحو النيات الحقيقية لأغلب أطراف الأزمة في السودان. فالتوقيتات التي حُدّدت على عجل لإصدار «اتّفاق سياسي نهائي»، ثمّ «دستور انتقالي»، فتشكيل حكومة، لا تتّفق إلّا مع تصوّرات القوى الدولية المعنيّة بالشأن السوداني. إذ طالما أصرّت الولايات المتحدة - على سبيل المثال - على تكوين مجلس تشريعي انتقالي بالانتقاء وليس بانتخابات شعبية أو توافُق سياسي واسع النطاق. ويجسّد إعلانُ «الدستور الانتقالي» بلورة مباشرة لهذا المطلب، واختزالاً ضارّاً للغاية لاستحقاقات المرحلة والخطوات التي كانت مفترَضة منذ نحو أربعة أعوام. كما لا تغيب عن هذا التحليل طبيعة أدوار البرهان وحميدتي في السياسات الإقليمية (ولا سيما مع دول الجوار)، في ظلّ تقارير أميركية مسرَّبة عمداً على ما يبدو («نيويورك تايمز» - 19 الجاري) عن انخراط حميدتي في علاقة مع مجموعة «فاغنر» الروسية، وتوظيفه روسياً في مساعي موسكو لاستهداف تشاد المجاورة واستكمال نفوذها في الساحل ووسط أفريقيا، وما يعنيه ذلك من تفسير جزئي لحالة التعجّل الراهنة، والسعي لاحتواء أطراف العملية الانتقالية كافةً، بغضّ النظر عن اعتبارات المصلحة الوطنية السودانية.
كما أن إنجاز الخطوات المعلَنة بتوقيتاتها سيفرض مزيداً من التساؤلات، مع ملاحظة أن ما وُصف بالدستور الانتقالي لم تتّضح ملامحه بعد، وسيباغِت على الأرجح جموع السودانيين، ويثير رفضاً واسعاً للغاية إذا تضمّن إشارة صريحة إلى «علمانية الدولة». كذلك، لا يُتوقَّع أن يمسّ الدستور مسألة وضْع الجيش (حتى في ضوء تأجيل ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، ثمّ استنفاد وقت معتبَر في مداولاتها وطرْح مقترحاتها بعد إصدار الدستور الانتقالي بشهور على الأرجح، وهو ما يشير إلى اضطراب بالغ الغرابة). في جميع الأحوال، فإن السودان مُقبل على تمديد مألوف لمرحلة انتقالية فقدت دلالتها، فيما الأجندة المعلَنة لن تضيف سوى تعقيدات أخرى، بالنظر إلى أن الحكومة المرتقَبة لن تكون بالفعل أكثر من «حكومة أقلّية» لا تحظى بقبول شعبي عريض، وأنها ستأتي نتيجة لمناقشات وترتيبات واتّفاقات سرّية وربّما إملاءات «أمميّة»، أو «رُباعيّة» بلغة أكثر وضوحاً.