«قرّرنا بملء الإرادات المؤمنة، المنبثقة من رحم وعينا التحرريّ والإنسانيّ، بعد التّوكل على الله، وإرادة شعبنا الحي، أن ننطلق سهاماً من على أوتار أرواحنا المتمردة، فإما حرّيّة حمراء مخضبة بالجوع، والكرامة، وإمّا انتصار أكيد على الذات، والدنيا معاً» - [من وصية الأسرى الجماعية قبيل أيام على الشروع بمعركة الإضراب «بركان الحرّيّة أو الشّهادة» (19 آذار 2023)]
على مبدأ «خذ ثم طالب» يرتقي وعيٌ جماعي خلف قضبان المعتقلات الصهيونية إلى ما فوق المدهش، وذلك من حيث استلهام القوة الواعية الراقية وعقلانية التوقيت والتخطيط، وقد نشأ ذلك مع تراكميات النضال المستمرة منذ النكبة، والتي شهدت سنواتها المستمرة حتى اليوم، دخول أكثر من مليون وربع فلسطيني وعربي إلى سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما أكسب الجيل الجديد الذي هضم نضالات الأسرى التحررية الشجاعة والراقية في آن معاً، خبرة لا مثيل لها، من حيث الكم والأداء والصبر الحكيم.
بعناية ودراية، بدأ الأسرى في 14 شباط خطوات التمهيد الاحتجاجية، وقد قالت لجنة الطوارئ العليا للحركة الأسيرة في بيان (11 آذار 2023) «إنّه يجب أن يكون يوم الثلاثاء «ثلاثاء الحرية» كي يكون هذا اليوم إحياء لذكرى «الثلاثاء الحمراء»، في إشارة تاريخية نبيهة لما قبل نحو قرن خلا، أي يوم الثلاثاء الذي أعدمت خلاله قوات الاحتلال البريطاني لفلسطين يوم 17 حزيران 1930، ثلاثة من قادة ثورة البراق (محمد جمجوم، فؤاد حجازي، وعطا الزير) وسمي ذلك اليوم بـ «الثلاثاء الأحمر».
رجال ونساء أكاديمية الأسرى في عموم فلسطين مختلفو المشارب والأعمار، البعضُ يُزجُّ خلف القضبان أطفالاً، وبعضٌ آخر شباناً، وآخرون في سن النضوج، ليقوم عدد كبير منهم، بمستويات مختلفة، بتحصيل علومه الثانوية والجامعية من خلف القضبان، وقد حصل العديد منهم على الأستذة الأكاديمية. هنا تجدر الإشارة إلى أن الفضل لم يكن بفعل «ديموقراطية الكيان» كما تشيعها الصهيونية والغرب وأتباعهما من الأنظمة، بل جاءت على مدى سنوات النضال فرضاً وإجباراً لحكومات النازية الصهيونية، وعقب نضالات تمتد إلى خمسينيات القرن الماضي أثناء الحكم العسكري، ثم نضجت بعد احتلال بقية فلسطين عام 1967.
لم يخْلُ بيت فلسطيني تقريباً، من دخول فرد منه إلى معتقل لدى الاحتلال، لفترات متراوحة وأسباب مختلفة. ومنذ الاحتلال عام 1948، كان الهدف الصهيوني منها عامةً الرغبة في سحق الهوية الوطنية وترويض الشعب، ويمكن لواقع اليوم أن يجيب بذاته على سؤال إن كان ذلك قد تحقق!
في الأسر يقرأون، يتعلمون ويدرسون، حتى تحولت السجون إلى مدرسة ثقافية ونضالية قل مثيلها، وذات سوية مرموقة. لقد منح الأسرى والمعتقلون، بذلك الجهد، قيمة حضارية تفوَّقت أخلاقياً وقيمياً على وحشية السجان وسحقت مراميه.
يبلغ عدد الأسرى والمعتقلين اليوم داخل معتقلات النازية الصهيونية 4780 أسيراً، من بينهم 29 سيدة وفتاة، و160 طفلاً، وأكثر من 900 معتقل إداري


إحدى الابتكارات التي باتت تشهد نضوجاً عالياً، هي الإضرابات المطلبية التي خاضها الأسرى بحرفية وخبرة وشجاعة، من حيث تحديد الزمان والأماكن والأعداد المشاركة، وأفواج الانضمام التدريجي المدروس، إضافة إلى توحيد مطالبهم التي يرونها –بحسب الظرف الآني أو الاستراتيجي- من زاوية مدى وقابلية وإمكانية تحقيقها تكتيكياً، وهذا يعني أن النخبة تدرس الظروف السياسية الدولية والمحلية وحالة حكومة الاحتلال، والوضع الفلسطيني، وحال الأسرى، ذواتهم وطبائعهم الفردية من خلال قراءة سيكولوجية عميقة، والظروف الشخصية والصحية لكل فرد منهم، وعلى هذا الأساس يتم تقسيم الدفعات المشاركة المتتابعة، لتبدأ مجموعة ثم تليها أخرى وهكذا دواليك.
مع كل إضراب يكسب الأسرى، ومع كل إضراب يخسر الاحتلال، ولا سيما وهْم وكذبة ديموقراطيته، حيث يتدخل الصليب الأحمر ومناصرو الشعب الفلسطيني العالميون، وتندلع النشاطات المدنية والشعبية الموازية، وهكذا يدخل قادة الأسرى بمرحلة التفاوض مع المحتل فيجبرونه على الخضوع مرة لمطالبهم بالكامل، والأخرى لغالبيتها، ولم تفشل مساعيهم إلا في مرات نادرة. هكذا جلبوا التلفاز والاتصالات والكتب، وحسنوا حياتهم اليومية، وليس بفضل النازي السجان وحكومته، بالتالي هم يسجلون في كل مرة انتصاراً على ما يسمى بـ«إدارة السجون» التي تحركها الاستخبارات والحكومة الصهيونية.
يبلغ عدد الأسرى والمعتقلين اليوم داخل معتقلات النازية الصهيونية 4780 أسيراً، من بينهم 29 سيدة وفتاة، و160 طفلاً، وأكثر من 900 معتقل إداري.
«لجنة الطوارئ الوطنية العليا للحركة الأسيرة» اتخذت قراراً بالإجماع ضم الفصائل كافةً داخل المعتقلات يقضي بالشروع في إضراب مفتوح عن الطعام، يحمل عنوان «بركان الحرية أو الشهادة»، وذلك رداً على الفاشية الصهيونية وقراراتها التي وصلت حد الترتيب، لتشريع تنفيذ أحكام الإعدام بحقهم وإجراءات غير قانونية بحسب القانون الدولي.
وبدأت خطوات الإضراب التمهيدية يوم الثلاثاء في 21 آذار، بحيث تشمل الأسرى تباعاً ابتداء من يوم الخميس 23 آذار، أول أيام رمضان، بمشاركة الأسرى القادة من كل التيارات في ذلك، إضافة إلى الأسيرات الماجدات.
وبينما كان الشعب الفلسطيني، يترقب انطلاق الإضراب، كان الأسرى، على ثقة تامة، بأنهم سينتصرون، بسبب إرادتهم، ويقينهم أنهم ذاهبون إلى إضراب، عرّفوه باحتمالين لا ثالث لهما «الحرية أو الشهادة» وكان لهم النصر، خطوة على طريق الحرية. لقد تراجع العدو منذ اللحظات الأولى، وغض المفاوضون من جهة الاحتلال الطرف، عن وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، حتى أن وسائل إعلام عبرية أشارت إلى «تجاهل حضور ممثلين عن وزارة الأمن القومي بزعامة إيتمار بن غفير في مجريات الاتفاق»، الذي جرى بين الأسرى من جهة، وبين مصلحة السجون والشاباك ومجلس الأمن القومي الإسرائيلي من جهة أخرى، وأوضحت «القناة12» العبرية، أن «الاتفاق الذي تم خلف الكواليس جاء من دون علم بن غفير». انتصر الأسرى في معركتهم، وانتصر الشعب الفلسطيني في قراره الذي اتخذه منذ انزرع الاحتلال في الأرض، ففي مسيرة السوء الإسرائيلية، وحكوماتها السيئة، هذه أسوأ حكومة منذ تأسيس الكيان، إلا أنها خضعت، وستخضع في معارك قادمة لا محالة، وفي النهاية، هذه مسيرة شعب، لا يقاوم المخرز فحسب، بل يلم نفسه من ركام السنين، ويعيد بناء نفسه، بينما يحرر أرضه، ليعود ويبني فلسطينه الحرة.