لم يتأخّر إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، عن البرّ بوعوده الانتخابية، فكانت نقطة البدء تضييق الخناق على السجينات والسجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية التي يعدّها بن غفير «مخيمات صيفية يجب أن تتحول إلى سجون». فجاء الإعلان عن الإضراب المفتوح عن الطعام سبيلاً أخيراً للانتصار على «الذات والدنيا معاً» كما قال السجناء والسجينات في بيانهم الذي صدر قبل أيام.

تصحيحٌ لا بد منه
كان الغرض من الإضراب تصحيح الأوضاع الاعتقالية، وضبط البوصلة النضالية للشعب الفلسطيني. ومن المنطلق ذاته، لا بد من تصحيح المصطلحات؛ فالحديث يدور هنا حول إضرابٍ مفتوحٍ عن الطعام يخوضه ببسالة سجيناتٌ وسجناءٌ فلسطينيون، سجناء لا أسرى. فَكلِمة «أسير» بالعربية جناسٌ زائفٌ مع كلمة «أسير אסיר» العبرية، وقد اعتُمدت ترجمةٌ حرفيةٌ خاطئةٌ، بناءً على ذلك؛ فـ«أسير» بالعبرية تعني سجين، أما أسير بالعربية فتعني من تمّ أسره في ساحة المعركة.
وبما أن جزءاً أساسياً من قِراعنا مع الاستعمار الصهيوني قراعٌ قانوني، فإنّ تحرّي الدقّة في المدلولات أمرٌ مهمٌ للغاية، فنضال شعبنا ضد الاستعمار ينطوي على عملٍ مسلّح، لكنه ليس مواجهةً تقليديةً بين جيشين يقع فيها أسرى، بل كفاح شعبٍ ضد قوةٍ استعمارية. وخروج الأسير يتمّ إما بتبادلٍ للأسرى أو بعد أن تضع الحرب أوزارها، وهذا ما لا ينطبق على حالتنا الفلسطينية، على الرغم من حدوث تبادلاتٍ منذ بدء الكفاح المسلح الفلسطيني أواخر الستينيات، فالاستعمار الصهيوني إحلالي ولا يزال مستمراً. مع ذلك، فقد سُجِّلت - على سبيل المثال - حالات تبادلٍ لسُجناء مشابهةٍ بين حركة التحرر الفييتنامية والسلطات الاستعمارية الفرنسية في الخمسينيات، وجبهة تحرير موزمبيق والسلطات الاستعمارية البرتغالية عام 1972. وقد أسر جيش التحرير الوطني الجزائري عسكريين فرنسيين خلال الثورة، وعاملهم معاملة السجناء، إلّا أنّ تعنّت فرنسا حال دون تبادلٍ للسجناء. لذلك، فإن الحديث عن تطبيق اتفاقيات جنيف كان واجباً قبل توقيع اتفاق أوسلو الكارثي. أمّا الآن، فالحديث عن تطبيقها يعني انتهاء الاستعمار، وهو ما يعني فناء أعمار الكثير من سجنائنا لدى الاحتلال الصهيوني، قبل أن يتمّ ذلك. وعليه، فإنّهم ليسوا أسرى ولا أسيرات، إذا لم يؤخذوا في معارك تقليدية، بل سجناء وسجينات بسبب نضالاتهم ضد الاحتلال.

دعوة لتصحيح ما جرى تصحيحه داخل السجون
تقسم السلطات الإسرائيلية نزلاء سجونها إلى فئتين: الأولى «السجناء الجنائيون»، والثانية «السجناء الأمنيون». الجنائيون هم من اقترفوا مخالفات وجنح وجنايات وجرائم، أما «الأمنيون» فهم كل من أقدم على فعل مناهض للاستعمار الصهيوني، وهم في نظر إسرائيل «خطر على الأمن».
بُعيد قيام دولة إسرائيل، كان الصهاينة يسجنون المناضلين والمناضلات في نفس الأقسام والغرف التي تؤوي المجرمين، وبعدما أخذ مدّ الكفاح المسلّح يتقدم منذ 1965، أصبح كمّ المناضلين والمناضلات في السجون معتبراً، فبدأت مرحلة إثبات الذات والمطالبة بالانفصال عن الأقسام الجنائية. وبرغم إرهاب مصلحة السجون والمخابرات الإسرائيلية - التي كانت تحت حكومات اليسار العلماني الصهيوني المحبوب عالمياً - واستخدامهما للمجرمين ضد المناضلين الفلسطينيين والعرب الذين منحتهم حقوقاً حياتية أقلّ ممّا تمنحه للجنائيين، تمكّن المناضلون من تنظيم إضرابات جماعية عن الطعام، فشلت في البداية، ثم نجحت في تحقيق مطلبهم المتمثل في وضعهم في أقسام منفصلة عن «المدنيين» أواخر الستينيات.
تبدّلت الحال بالنضالات، إلى أن صار لازماً على الطرفَين أن يخاطب كلٌّ منهما الآخر بـ«لو سمحت». لذا يرى السجناء أنهم يعيشون بين «إنجازات» لا بين امتيازات


لكن الحياة الاعتقالية في الأقسام «الأمنية» لم تكن - وليست - أفضل مما هي عليه عند الـ«المدنيين». فبحسب «القوانين» الإسرائيلية، يحقّ للسجين الأمني ما يأتي: «بطانيّتان، بزّتان لزيّ السجون، خُفّ، صحن من الفول وبيضتان مسلوقتان، وساعة واحدة للتنزّه في ساحة السجن يومياً. أمّا كل ما يمكن تخيّله داخل السجن، أي سجن من أسِرَّة، ومرحاض آدمي، وأغطية، ومخدات، وكتب، وصحف، وأدوات للطبخ، ومَقصَف (كانتين)، وزيارات...إلخ»، فهو في «القانون» الإسرائيلي: «امتيازات». وقد تأتّت هذه «الامتيازات» بالتضحيات، والإضرابات عن الطعام، والمواجهات بالقبضات مع قوات القمع الصهيونية المدججة بالسلاح. كان على السجينة أو السجين أن يخاطب السجان بـ«سيدي» قبل أيّ جملة، ثم تبدّلت الحال بالنضالات، إلى أن صار لازماً على الطرفين أن يخاطب كل منهما الآخر بـ«لو سمحت». لذا يرى السجناء أنهم يعيشون بين «إنجازات» لا بين امتيازات.

جدلية الداخل والخارج
لا ريب في أن السجون تشكّل خندق المواجهة الأوّل مع المنظومة الصهيونية، التي تسعى إلى جعل السجين كائناً محطّماً أو مريضاً نفسياً أو كائناً أحيائياً، يفكر في غرائزه وحسب. لكن أعظم إنجاز حققه المناضلون والمناضلات في السجون الإسرائيلية، هو «التنظيم والتمثيل». فالسجناء موزعون حسب الفصائل، إذ يختار السجين حسب ميوله السياسية أو الفكرية، أيّ غرفٍ يريد قضاء حكمه فيها، ولكل غرفة ممثلها، ولكل قسم ممثله، ولكل فصيل ممثله، ولكل سجن لجنة من ممثلي الفصائل تمثّله أمام إدارة السجن، كما أن هناك لجنة مكونة من ممثلي الفصائل تمثّل الكل الاعتقالي أمام مصلحة السجون والمخابرات الإسرائيلية. وقد اعترف النظام الصهيوني بحق التمثيل وبتنظيم «الحركة الوطنية في السجون» (الاسم المتعارف عليه فلسطينياً للتنظيم الاعتقالي) بعد إضراب عام 1981 الذي استشهد فيه ثلاثة مناضلين فلسطينيين، وهكذا أصبح تعامل إدارة السجون يتم بين تنظيم وتنظيم، لا بين إدارة وكل سجين على حدة.
تتناسب إنجازات الحركة الوطنية في السجون طردياً مع الحالة الثورية الفلسطينية خارج السجون؛ فمن الستينيات حتى توقيع اتفاق أوسلو ونهاية الانتفاضة الشعبية الأولى، كان المدّ جارفاً، وكان لسان الشعب الفلسطيني يقول: «إننا موجودون وستعترفون بذلك عاجلاً أو آجلاً»، وهو ما تمّ بعد عناء. أما في التسعينيات بعد توقيع «أوسلو»، وانخفاض عدد السجناء والسجينات بشكل كبير، راحت إنجازات الحركة الوطنية في السجون تتلاشى، رغم غياب العنف من طرف مصلحة السجون، ومع الانتفاضة الثانية طرأ تحسّنٌ نسبي، قبل أن يعود الأمر إلى السوء في ظلّ ترهّل وانقسام في المشهد الفلسطيني.

ومضة وسط ظلام دامس
مرة أخرى، وجدت «الحركة الوطنية في السجون» نفسها مضطرّة إلى الدفاع عن إنجازاتها في لحظة ملتهبة، فلم تدع مجالاً للشك في أنها ستخوض معركة أمعاء خاوية، لن تجدي معها نفعاً القوة الغاشمة، ويبدو أن النداء الذي وجّهه السجناء والسجينات للشعب ومقاومته الحيّة كان مؤثّراً، فعلى الرغم من أن مجموعات «عرين الأسود» كانت الوحيدة التي ردّت بالإيجاب في بلاغ ناري طال شراره السلطة الفلسطينية وإسرائيل، إلا أن ذلك يُعدّ كافياً لدفع النظام الاستعماري الصهيوني إلى إعادة النظر في أسلوب تعامله مع السجينات والسجناء الفلسطينيين. فمجموعات «عرين الأسود» هي الوحيدة القادرة اليوم على جمع التأييد في أماكن وجود الشعب الفلسطيني كافة، وقد ثبت ذلك عندما لبّت الجماهير نداء «العرين» بتنفيذ وقفات تضامنية في مختلف أرجاء البلاد، وهو ما يستحيل أن يقدر عليه فصيل فلسطيني، مهما كان تاريخه أو توجّهه الفكري أو السياسي.
صحيحٌ أن «العرين» حالة رد فعل شعبي مسلح، وأن أفقه الثوري ليس بعرض قاعدته الشعبية، إلا أن قدرته على إشعال البلاد حالياً جاءت في الوقت المناسب، فتراجعت الحكومة الإسرائيلية، وتنفّس السجناء والسجينات الصعداء إلى حين. فمن الوارد جداً أن يكون التراجع الإسرائيلي تكتيكياً، لامتصاص النقمة الفلسطينية، وللتفرغ لحل الأزمة الداخلية، ثم العودة مجدداً للانقضاض على «الحركة الوطنية في السجون»، فذلك مطلب لدى الناخب اليميني الصهيوني.
إنّ انتصار السجينات والسجناء الآن ضروريٌ، لنفح الروح الجمعية الفلسطينية ببعض الثقة الثورية، وربما لزرع وعي بأن وجود حالة تنظيمية ملتحمة بالجماهير، أمر ممكن وقابل للتطور، وقادر على نصرة السجينات والسجناء وإحراز شيء ملموس على الأرض. ولعل أهم الأشياء الواجب إحرازها الآن، الخلاص من الهياكل الفصائلية القائمة، والخلاص من سلطة التنسيق الأمني التي حسمت أمرها ضد الشعب، وأخيراً وليس آخراً، شمل السجين المناضل خضر عدنان - الذي يخوض إضرابه الرابع المفتوح عن الطعام منذ ما يربو عن الـ 40 يوماً - في فعل جماعي يعيده إلى أسرته.