«غزة لست وحدك»، هكذا هتفت بيروت خلال أيام حرب غزة الأخيرة، وارتفع العلم الفلسطيني فيها. هذه الهبة هي من عاصمة لا تزال تعتبر أن أي عدوان على غزة هو عدوان عليها. أهل الثقافة والكتب في هذه المدينة شعروا بالمسؤولية أمام محاولة الآلة الإسرائيلية لاستباحة الوعي الجماعي الفلسطيني، عبر استباحة ذاكرة الشعب الفلسطيني وأرشيفه، واستهداف مكتبات قطاع غزة وتدمير جزء منها بشكل كامل. آلة الحرب الإسرائيلية كانت تشبه المغول هذه المرة، وجاء أهل بيروت ليقولوا لها «من بيروت هنا غزة» كما كل مرة، لكن هذه المرة أتت فريدة إذ تعبّر عن عمق تسمية بيروت «عاصمة الكتاب». أطلق مثقفو هذه المدينة «حملة المئة ألف كتاب لدعم غزة»، بعد تدمير الغارات الإسرائيلية، في معركة «سيف القدس» عام 2021، عدداً كبيراً من المكتبات، تعود ملكية غالبيتها لشبان كانت مكتباتهم تشكّل لهم مصدر رزق، أبرزها مكتبة «سمير منصور»، وهي مكتبة يزيد عمرها على 30 عاماً وتعتبر من أغنى المكتبات في القطاع من ناحية شمولها على كتب دينية وثقافية وأدبية وسياسية واقتصادية، وتنشر للكثير من الكتّاب الفلسطينيين.
«حملة المئة ألف كتاب لدعم غزة» جمعت أكثر من 110 آلاف كتاب، وكانت بدايتها مع فكرة لمالك دار «نلسن» للنشر، سليمان بختي، الذي حوّل فكرة جمع التبرعات لأهالي غزة، من مجرد أموال وأدوات طبية ومساعدات إلى التبرع بالكتب رداً على التدمير الممنهج الذي جاء ليكمّل مشهد الخراب في أذهان الغزيين بخاصة الفئة الأكثر ارتباطاً بالعلم والثقافة.
جاءت المبادرة كرد فعل على الاحتلال ومحاولته كي الوعي الجمعي الفلسطيني، ومحو إرث تاريخي وسردية فلسطينية. وأسهمت بتنظيمها مجموعة من المفكرين وأهل الكتب، من بينهم رئيس مؤسسة «عامل» الدولية كامل مهنا، والدكتور عمر نشابة، ومجموعة من المتطوعين. يصف القائمون على المبادرة تهافت المتبرعين بالكتب بالمفاجئ، إذ لاقت الحملة استجابة واسعة، وتبرعات مفاجئة، من مثقفين ودور نشر ومؤسسات ثقافية، وهي توسعت إلى مبادرات فردية. يقول مالك دار «نلسن» للنشر، سليمان بختي: «على رغم وصول آلاف الكتب إلا أنني لا يمكن أن أنسى وجوه الأطفال في المخيمات وهي تتبرع بقصصها لتصل إلى أطفال غزة، وهذا أعمق ما يمكن أن يتربى عليه هذا الجيل».
هدفت الحملة إلى جمع الكتب لكل مكتبات غزة وبخاصة المكتبات العامة، ولتسهيل جمع الكتب تعاونت «عامل» لاستلام الكتب من كل الأراضي اللبنانية، وأفرغت جزءاً من مكاتبها لجمعها بداخلها بشكل منهجي وأرشفتها. وتنوعت هذه الكتب بين كتب تعليمية وسياسية وعلمية وثقافية بأكثر من لغة. وُضبت الكتب وتم فرزها بحسب المواضيع، لكن هذه الصناديق لم تلق طريقاً لها لا براً ولا بحراً. بدأت المحاولات لإدخال الكتب إلى قطاع غزة، بداية من وكالة الغوث «الأونروا»، إذ تواصل القائمون مع مديرها في لبنان، فطلب منهم التنسيق مع الصليب الأحمر الدولي، لكن هذا الخيار كان غير فعّال، فانتقلوا للتواصل مع الحكومة المصرية عبر سفيرها في لبنان وبمساعدة وزير الثقافة اللبناني، إلا أن مصر لم تبد تعاوناً.
هنا بدا الحصار جلياً، لا مكان لدخولك يا غزة. يصف بختي الحصار على أنه الأسوأ على مر تاريخ غزة. يسرد مهنا المحاولات لإدخال الكتب بأسف شديد ومع كل محاولة يذكرها يتأسف إلى كل من تبرع. تتالت المحاولات ومرّت عبر السفير الفلسطيني في لبنان وجامعات وجمعيات في غزة منها جمعية «أنيرا» ومكتبة «سمير منصور»، لتصل إلى الدول ومنها روسيا، لكنها فشلت في نهاية المطاف.
لم يكن السبب هو محتوى الكتب، كما يؤكد بختي، إذ إنهم حرصوا على أن لا تتضمن التبرعات أي كتب دينية ممنوعة من الدخول إلى غزة أو كتب عسكرية. «الكتاب هو السلاح» يقول بختي. هذا ما أثبته الاحتلال الإسرائيلي عندما استهدف المكتبات أولاً ومنع دخول الكتب ثانياً. يضيف بختي: «يا لعار الأمم، منذ القرون الوسطى لم يعد هناك توقيف للكتب، وبعض الدول ذهبت لإزالة الرقابة عن الكتب، وهذا المحتل لا يزال يعبّر عن خوفه من إدخال كتاب أطفال عن الأحرف الأبجدية». يعتبر بختي أن المبادرة بحد ذاتها تشكل تهديداً للإسرائيلي لأنها تضم أعداداً كبيرة من الكتب وتتوجه لكل القطاع.
لكن هذه المبادرة لم تكن الوحيدة، إذ سبق أن أقامت المديرة المؤسّسة لبرنامج سليم الحص للأخلاقيات الأحيائية والاحتراف في المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت، الدكتورة تاليا عراوي، مبادرة فردية تحت اسم «حنظلة وحنظلاية» لإعادة إعمار مكتبة «سمير منصور» المنكوبة التي سوّاها القصف بالأرض، وضمّت أموالاً ومجموعة من الكتب لاقت مسارها إلى غزة.
أمّا الآن، فقد تكدّست الكتب في بيروت، لكن القائمين على المبادرة وجدوا حلاً بتوزيعها على مكتبات المخيمات في لبنان، وعقدوا مؤتمراً صحافياً أعلنوا فيه عن كيفية توزيعها. ونظراً لأهميتها العلمية، طريقة التوزيع ستكون من خلال المواضيع، ليتم تجميع كل مجموعة في مكتبة واحدة من دون تشتيت للكتب، وستوزع بالتنسيق مع مؤسسة «التعاون» على مكتبة هاني قدومي العامة في مخيم الرشيدية، ومكتبة سامر خوري العامة في مخيم عين الحلوة، ومكتبة سعيد خوري العامة في مخيم برج البراجنة، ومكتبة سهيل صباغ العامة في مخيم برج الشمالي، ومكتبة يوسف علامة وناصر سويدي العامة في مخيم البداوي، ومكتبة عبد العزيز شخشير العامة في مخيم نهر البارد، ومكتبة أحمد أبو غزالة العامة في مخيم الجليل، بالإضافة إلى مكتبة في مخيم البص. وسيتم توزيع جزء منها على مكتبات «السبيل» التابعة لبلدية بيروت، والموزعة بين الباشورة ومونو والجعيتاوي، علماً أنها تتعاون مع العديد من المكتبات العامة المستقلة خارج بيروت.
حبّذا لو بين بيروت وغزة نهر، لكنا رمينا الكتب فيه لتصل إليهم أشلاؤها. لا نكث هنا، حاول «أصحاب العقول» أن ينتصروا مجدداً على الاحتلال الإسرائيلي، ويستفيدوا من الكتب لتُنشئ جيلاً من الفلسطينيين المثقفين في الشتات محافظين على الوعي الفلسطيني الجمعي.