عينٌ على واشنطن وأخرى على صنعاء. هكذا يمكن اختصار المشهد اليمني في أعقاب الاتّفاق الإيراني - السعودي. صحيح أن للسعودية مصلحة أكيدة في وضع حدّ لحربها المتواصلة منذ ثماني سنوات على اليمن، وهي مصلحة متّصلة بالطموح المستقبلي لوليّ العهد، محمد بن سلمان، وبـ«واقع سعودي مرير» سجّلته سنوات القتال انطلاقاً من معادلات الردع الفعّالة التي ابتدعها اليمنيون، حتى صارت جزءاً لا يتجزّأ من «المخاطر» التي من شأنها أن تهدّد مشروع ابن سلمان، وهذا ما أدركه الرجل جيّداً. إلّا أن «العامل الأميركي» في القرار السعودي لا يزال مؤثّراً، وهو ما يجعل الملفّ اليمني اختباراً حقيقياً لمدى قدرة وليّ العهد على تفضيل المصلحة السعودية على أولويات مشروع إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن.يأمل الأميركيون أن لا يتمكّن الاتّفاق الإيراني - السعودي من إنهاء الحرب في اليمن. يراهنون في ذلك على اعتقادهم بأن حركة «أنصار الله» ستُواصل حملتها ضدّ خصومها الداخليين بمعزل عن احتمال توصّلها إلى تفاهم نهائي مع السعودية حول الهدنة وتمديدها. في هذا الجانب، يُثير الأميركيون الكثير من المخاوف في أذهان مُحدّثيهم السعوديين من تمدّد «أنصار الله» في مأرب وشبوة وحضرموت وعدن، فيما لو انسحبت المملكة، مع ما لهذه المحافظات الاستراتيجية من وضعيّة خاصة بالنسبة إلى الأطراف كافة. هنا، يقول غريغوري دي جونسون، العضو السابق في فريق الأمم المتحدة بشأن اليمن، في تحليل نشره «معهد دول الخليج العربية في واشنطن»، إن السعودية قد تجد نفسها منغمسة من جديد في الصراع، حيث تشترك بحدود طويلة مع اليمن، مع فارق أساسي في هذه الحالة بين وجود مناطق تحت سيطرة «أنصار الله»، وبلد كامل في قبضة الحركة. ويضيف دي جونسون أن «المملكة تَنظر إلى اليمن وترى حرباً واحدة، بينما في الواقع هناك ثلاث حروب: الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضدّ تنظيمَي "القاعدة" و"الدولة (داعش)"، والتنافس الإقليمي السعودي - الإيراني، والحرب الأهلية اليمنية المحلّية، ولكلّ من هذه الحروب جذور مختلفة ومسار مختلف، ومن يحاول إنهاء إحداها فلن ينجح في إنهاء الأخرى».
الدخول مباشرة إلى الدور الأميركي في اليمن يوفّر الكثير من عناء البحث والتحليل، وخصوصاً أن ذلك الدور لم يغب عن المشهد منذ اللحظة الأولى للإعلان عن انطلاق عدوان «عاصفة الحزم» من واشنطن عام 2015، حتى آخر زيارة قام بها قائد قوّات الأسطول الخامس الأميركي، الجنرال براد كوبر، على رأس وفد عسكري، إلى محافظة المهرة قبل أيام. انخراطٌ ممتدّ أكّد ما للولايات المتحدة من أهداف في هذا البلد، تُراوح بين تثبيت سيطرتها على المنطقة ومعابرها وممرّاتها الملاحية وثرواتها النفطية، وصولاً إلى حماية إسرائيل. على أن الفشل الأميركي الذي عكَسه فشل دولتَي «التحالف»، السعودية والإمارات، في فرْض الأهداف السياسية للحرب، وتعثّر مشاريع الانفصال والتقسيم والأقاليم، لم يدفع الأميركيين إلى التخلّي عن أهدافهم الاستراتيجية تلك، وخصوصاً في ظلّ تصاعد مواجهتهم مع روسيا والصين، وما يمثّله اليمن من مركز مهمّ في سياق هذه المواجهة، اقتصادياً وسياسياً. ولذا، تتمسّك واشنطن بسياسة تعزيز نفوذها على الأرض اليمنية، وهو ما يفسّر وجودها المباشر المتنامي في أجزاء كبيرة من اليمن، مِن مثل محافظة حضرموت حيث تقوم قاعدة أميركية مركزية في مطار الريان تتضمّن غرف عمليات عسكرية، وأيضاً تسيطر القوّات الأميركية، بالاشتراك مع نظيرتها الإماراتية، على ميناء الضبة في المحافظة.
الفشل الأميركي الذي عكَسه فشل دولتَي «التحالف»، لم يدفع الولايات المتحدة إلى التخلّي عن أهدافها الاستراتيجية


وفي نظرة سريعة إلى خريطة الوجود الأجنبي في اليمن، يَظهر تمركز أميركي مباشر في النقاط التالية: مطار الغيضة - مركز محافظة المهرة -، ميناء بلحاف ومطار عتق في محافظة شبوة، باب المندب حيث تتواجد قوّات رمزية إماراتية في غرف العمليات بالقرب من ميناء المخا، إضافة إلى رقابة أميركية في جزيرة ميون، وتواجد عسكري في مرتفعات جزيرة حنيش الكبرى في الساحل الغربي، فضلاً عن عشرات النقاط التي ينتشر فيها أيضاً إماراتيون وسعوديون وسودانيون وبريطانيون في المكلا وعدن ولحج وغيرها. وتُبرّر حكومة عدن ذلك الواقع بأنه يأتي امتداداً لأدوار أميركية مماثلة منذ أيام الرئيس الراحل، علي عبدالله صالح، إذ كانت تستند إلى اتفاقيات مشتركة وخصوصاً في مجال «مكافحة الإرهاب»، وهو المشروع الذي أمّن موطئ قدم للأميركيين في اليمن في عهد صالح. والآن، يتمّ تحديث المشروع من خلال تكرار المسؤولين الأميركيين شعار «مكافحة التهريب»، في ما ينبئ بنيّة اعتماده كاستراتيجية عامّة لتحرّكاتهم انطلاقاً من محافظة المهرة بالتحديد.
إزاء ذلك، يمكن الحديث عن هدفَين رئيسَين تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقهما: الأوّل، ربْط جهود التسوية المبذولة برعاية عُمانية بواقع ميداني يفرضه الوجود الأميركي المباشر في مناطق نفوذ «التحالف» والفصائل التابعة له، وهو ما يعني بالضرورة تأثيراً أميركياً كبيراً على خريطة الولاءات الخاصة بتلك الفصائل. وفي هذا المجال، تلعب الإمارات دوراً مساعداً للأميركيين على حساب السعودية وجماعاتها، دفَع الأخيرة إلى اتّخاذ خطوات مضادّة، كان آخرها استحداث تشكيلات «درع الوطن» السلفية، والدفع بها إلى البوّابة الغربية لمضيق باب المندب، في محاولة لتثبيت مساحة نفوذ للمملكة هناك، على حساب الميليشيات الموالية للإمارات والمسيطرة على منطقة المخا والساحل الغربي. أمّا الثاني، فهو تأمين مصالح استراتيجية طويلة الأمد، على رأسها تأمين إمدادات النفط نحو الأسواق العالمية، وتأمين حركة الملاحة والتجارة العالمية عبر الإشراف على الخليج والبحر الأحمر.
بالعودة إلى الاتفاق الإيراني - السعودي برعاية صينية، فقد بادر مسؤولو إدارة بايدن، بعد أسابيع منه، إلى التقليل من أهمّيته، والتهوين من الدور الصيني في الوصول إليه، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الذي قال إن «السعوديين والإيرانيين تحدّثوا على مدار العامَين الماضيَين في عُمان والعراق، وما قامت به الصين وبذكاء هو استغلال ما تَحقّق في تلك النقاشات لاستضافة ختام المحادثات للتوصّل إلى اتفاق». لكن، على النقيض من ذلك، فإن إعلان بكين لا تَخفى أهمّيته، سواء بالنسبة إلى أطرافه المباشرين وأولئك المتأثّرين به، بل وأيضاً الولايات المتحدة نفسها، على اعتبار أنه مرتبط بمنطقة نفوذ تقليدية لها بينما هي تحوّل تركيزها نحو آسيا والمحيط الهادئ. وعليه، فإذا نجحت الصين في إنفاذ الاتفاق بين إيران والسعودية، مع ما يعنيه ذلك من «فترة صفاء» ستعيشها المنطقة ربطاً به، فإن هذا سيمثّل عامل إزعاج للولايات المتحدة، قد تترتّب عليه ردود فعل من بينها اشتغال واشنطن على إعادة ترتيب أوراقها في الشرق الأوسط والخليج تفادياً لخسارتها نفوذها، ومنعاً من أن تملأ بكين الفراغ الذي خلّفته هي.