في وقت كانت لا تزال فيه المنطقة تعاين حالة هدوء نسبي على عدد من جبهاتها، سجّل السودان تمرّداً على المشهد. ومن الميدان، كسرت صور المعارك الدموية هناك بين الجيش السوداني بقيادة رئيس «المجلس السيادي» الانتقالي عبد الفتاح البرهان، وقوات «الدعم السريع» بقيادة نائب البرهان، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، صوم الإقليم المستجدّ والقصير عن مواسم حرب طويلة لم تعرف سكوناً البتّة، دافعةً بالبلد العربي الأفريقي ذي الموقع الاستراتيجي إلى عهد جديد من الانقلابات. من رحمِ الأحلام بالسلام، والتي راودت السودانيين بعد «الاتفاق الإطاري» الأخير، تكشّفت فصول صراع على النفوذ في أوساط قادة المكوّن العسكري في هيكل السلطة الانتقالية، برزت في واجهتها خصوصاً طموحات «شخصية» و«انتهازية» لقائد «الدعم السريع»، وخلافات مع البرهان حول البنود الأمنية في «الإطاري»، الموقَّع في كانون الأول الماضي، والذي كان يُفترض أن يفتتح مساراً سياسياً يفضي إلى إقرار دستور جديد للبلاد، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية. «حميدتي» الذي بدأ معركة لا تتوقّف حدودها عند الداخل السوداني، لاتّصالها بأجندة اشتباك إقليمي ودولي على أرض البلاد، وما تختزنه من ثروات تحتها، يحمل في جيناته السياسية خصالاً انقلابية يزخر بها التاريخ الحديث للسودان. وهو شخصية كثيراً ما تذبذبت ما بين تأييد السلطة في وجه معارضيها تارة، والتمرّد عليها بالتواطؤ معهم تارة أخرى. تاجر الجِمال، الذي عمل في هذا الميدان لسنوات قبل سطوع نجمه على المسرح السياسي، والمنحدر من إحدى القبائل العربية القاطنة على الحدود السودانية - التشادية، افتتح مبكراً مسار نفوذه، بادئاً إيّاه من خلال انخراطه في أنشطة عسكرية في صفوف الميليشيات المحلّية الناشطة في مجال توفير الحماية للقوافل التجارية في تلك المناطق. ومع الوقت، أمكن له تثبيت نفسه كأحد أبرز أركان نظام الحكم في بلاده في عهد عمر البشير وما بعده، ولا سيما إبّان فترة تولّيه مناصب قيادية في ميليشيات «الجنجويد» التي أَوكلت إليها حكومة الرئيس المعزول، بدءاً من عام 2003، مهمّة مكافحة التمرّد في الإقليم الواقع غربي البلاد.
ومع نجاحه في إخماد تمرّد دارفور، تمكّن القائد العسكري الشاب من كسب ثقة رئيسه الذي كافأه بتعيينه قائداً على رأس «الجنجويد» بدلاً من موسى هلال، الذي كان يُعدّ أحد قادة حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم، إضافة إلى منحه رتباً عسكرية عليا، وصلت إلى حدّ ترقيته إلى رتبة فريق على رغم عدم كونه عسكرياً في صفوف الجيش النظامي، وعدم تلقّيه تعليماً عالياً. وممّا ساعد حميدتي في تعزيز مكانته أيضاً، قرار البشير قوننة وضع تلك الميليشيات تحت مسمّى «استخبارات حرس الحدود» في عام 2007، ومن ثمّ إعادة هيكلتها وتشكيلها وتسميتها «الدعم السريع» عام 2013 ، لتصبح جهازاً رسمياً، وذلك على أمل جعلها مركز قوّة موازياً للجيش والشرطة، وبالتالي إحباط أيّ مخطّط انقلابي ضدّ البشير. ويُضاف إلى ما تَقدّم أن قائد «الجنجويد» مُنح، في تلك الفترة، صلاحيات واسعة على صعيد استغلال مناجم الذهب في منطقة دارفور، ووفّرت له استقلالية مالية مكّنته من تعزيز قوّاته عدّة وعديداً، حتى أحكم الرجل قبضته على السلطة والمال في وقت واحد، واقترب خطوة إضافية من سدّة القيادة، بعدما بنى علاقات وطيدة مع أعيان القبائل والمشايخ والزعماء الدينيين في عدد من المناطق.
وكما عهدت البلاد انقلاب جعفر النميري في ستينيات القرن الماضي، مروراً بانقلاب عمر البشير، وصولاً إلى الانقلاب عليه في عام 2019، بتواطؤ بين «حميدتي» والجيش، وفق صيغة ضمنت عدم ممانعة دقلو تولّي البرهان قيادة البلاد، مقابل تعيين الأوّل نائباً للأخير، إلى جانب ضمانات بعدم المساس بمكتسبات قائد «الدعم السريع» السياسية والاقتصادية والعسكرية، يحمل مسار الأحداث الراهنة في السودان معانيَ دلالية في الاتّجاه نفسه. إلى ما قبل إعلانه التمرّد على رئيسه هذا الأسبوع، لم تكن علاقة «حميدتي» بالبرهان على هذا القدر من السوء، ولم تكد تخلو من مشتركات محورها التكافل والتضامن في إقحام القوات السودانية في حرب اليمن إلى جانب التحالف السعودي، مطلع عام 2015، إضافة إلى الاشتراك في الإطاحة بحكم البشير، فضلاً عن الحماسة التي تجمع بين الجنرالَين حيال تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
أمّا النقاط الخلافية، فهي بقيت حبيسة الكواليس لفترة ليست بالقصيرة، إلى أن تفجّرت بعد توقيع «الاتفاق الإطاري»، واتّضاح خطوط الصدع بين الرجلَين حول استكمال إقرار بنوده الأمنية (إثر التفاهم على معظم بنوده السياسية)، وخصوصاً ما يتعلّق منها بتوحيد المؤسّسة العسكرية، ودمج «الدعم السريع» في صفوف الجيش تحت قيادة البرهان، وهو أمر استشفّ منه «حميدتي» نيّة إبعاده عن الحلبة السياسية وسحب أبرز أوراق القوة لديه، بما يمهّد لإقصائه تماماً عن معادلة الحكم، ولا سيما أن البرهان أراد إتمام عملية الدمج ضمن مهلة لا تتعدّى السنتين، فيما مال دقلو إلى جدول زمني لا يقلّ عن عشر سنوات. وإذ دأب قائد «الدعم السريع»، منذ زمن، على تأسيس ما هو أشبه بـ«حكم ذاتي» في دارفور، من دون أن يَغفل عن توظيفه وفق ما تمليه أجندته في التعامل مع السلطات في الخرطوم، وطبيعة علاقاته معها، فإن تحرّكه سريعاً ضدّ ما يراه محاولة لـ«قصقصة أجنحته»، لم يكن أمراً مستغرباً البتّة.
العلاقات الخارجية لحميدتي والبرهان تندرج ضمن «لعبة الصراع على السلطة»


في العمق، يتّصل صراع «حميدتي» - البرهان بميزان القوى الهشّ داخل البلاد، وخلافات المكوّن العسكري بشأن مساحات النفوذ من جهة، وتباين رؤى القوى المدنية حول دور الجيش في المرحلة المقبلة، من جهة ثانية. على أن دقلو، المشهود لقواته المقدَّر تعدادها حالياً بنحو 100 ألف بقمع التظاهرات وارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية لسنوات خلت، حاول الترويج لنفسه أخيراً أمام قوى المعارضة بأن خلافه مع رئيس «المجلس السيادي» نابع من معارضته بعث النظام السابق. أمّا البرهان، فيقترب نهجه في الحُكم، بالفعل، من محاولة إحياء نظام «حزب المؤتمر الوطني» الذي حكم البلاد ما بين عامَي 1989و 2019، وهو ما دلّ عليه مثلاً إطلاقه سراح عدد من قيادات الحزب منذ تولّيه سدة السلطة، عقب انقلاب 25 تشرين الأول قبل عام ونيّف. لكن وفقاً لمركز «كونفلوانس آدفايسوري»، المعنيّ بالشأن السوداني، فإن ثمّة ضلعاً ثالثاً في هذا الصراع، متمثّلاً في كوادر النظام السابق، ومن بينهم وزير الخارجية السابق، علي أحمد كرتي. ويوضح المركز، الذي يتّخذ من الخرطوم مقرّاً له، أن الأطراف الثلاثة تختلف في ما بينها حول «الوجهة التي يجب أن تتّبعها البلاد، والجهات (الدولية والخارجية) التي يجب التعامل معها لبلوغ الوجهة النهائية المنشودة»، رابطاً بين زيارات المبعوثين الدبلوماسيين للسودان في الأسابيع القليلة الماضية، ولا سيما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ووزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، وبين الصراع الدائر على السلطة، موضحاً أن التحالفات الخارجية التي ينسجها كلّ طرف من أطراف الصراع هناك، تتعلّق بمساعيهم «للاستعانة بالجهة (الخارجية) التي تساعدهم على بلوغ مرادهم، بأسرع طريقة ممكنة».
من هنا، يمكن القول إن للصراع الثنائي أبعاده الخارجية المتعلّقة بصراع دولي إقليمي على النفوذ داخل أفريقيا عموماً، وعلى السودان خصوصاً، على وقع الحرب في أوكرانيا، وما نجم عنها من عودة للاستقطاب الدولي بين موسكو والغرب. ومع أن مصر تندرج في عداد أبرز القوى الإقليمية الداعمة للبرهان، لأسباب تأتي في طليعتها العلاقة الوطيدة التي تربط بين المؤسّستَين العسكريتَين لكلا البلدَين، إلّا أن موقفها من نظامه يبقى محاطاً بشيء من الضبابية، سواء على خلفية مهادنة الأخير للتيّارات «الإخوانية» في السودان، أو بفعل توجّس القاهرة من إمكانية اقتراب الموقف السوداني من الموقف الإثيوبي بصورة أكبر في ما يخصّ سدّ النهضة، فضلاً عن تخوّفها من مشروع تدفع به موسكو لإقامة قاعدة بحرية في السودان، يمكن أن يعزّز موقف أديس أبابا، أحد أبرز شركاء روسيا في أفريقيا على الصعيد العسكري. وفي هذا الإطار، تلمّح الباحثة المتخصّصة في الشأن السوداني، خلود خير، إلى وجود رابط بين الاشتباكات الأخيرة و«فيتو» خارجي على مخرجات «الاتفاق الإطاري»، مبيّنةً أن الاتفاق «يصبّ في صالح حميدتي، بينما يفضّل المصريون (ترجيح كفّة) البرهان». وتشير خير إلى أن لكلّ من أفرقاء الصراع الداخليين والخارجيين «مساره الخاص به» على صعيد التحالفات. وبحسب تقارير غربية، فإن رئيس المخابرات السوداني السابق، صلاح قوش، الذي يقيم حالياً في القاهرة، هو مفتاح المسار المصري المنشود في السودان، كونه صلة الوصل بين المخابرات السودانية والجانب الأميركي، وقد عمد إلى ترتيب زيارة قيادات استخبارية سودانية لواشنطن مطلع العام الجاري.
بدوره، يلفت موقع «ميدل إيست آي» إلى أن لدى كلّ من البرهان وحميدتي مصادر مختلفة للسلطة والثروة، كما أنهما يتبعان استراتيجيات متوازية على الصعيدَين الداخلي والخارجي، حيث يحظى كلّ منهما بتأييد حكومات أجنبية مختلفة، وأحياناً داخل أجنحة متصارعة في ما بينها ضمن جهة حكومية واحدة، أو محور إقليمي متجانس. ومن هنا، يمكن فهم حجم الهوّة بين مواقف مجموعة «الرباعية» - التي تضمّ الإمارات والسعودية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة -، والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، المؤيّدة - وإنْ مع تفاوت واختلاط وتردّد - لـ«الاتفاق الإطاري» من جهة، وبين موقف القاهرة المنحاز إلى البرهان من جهة أخرى. وبحسب الموقع نفسه، فإن «حميدتي» يتمتّع، بدوره، بعلاقات وثيقة مع عواصم الخليج، بخاصة أبو ظبي، التي لعبت دوراً بارزاً في دفع الخرطوم إلى التطبيع مع إسرائيل. وكما بات معلوماً، تستورد الإمارات ما قيمته 16 مليار دولار من صادرات الذهب السوداني، بخاصة تلك المستخرَجة من مناجم إقليم دارفور، الخاضعة لسيطرة «الدعم السريع».
وكذلك في الحالة الإسرائيلية، يرجّح الباحث في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، إيهود يعاري، أن تكون وزارة الحرب وجهاز الاستخبارات في إسرائيل يفضّلان التعامل مع البرهان، وليس «حميدتي»، على رغم أن الرجلَين لديهما تواصل مع المؤسّستَين الأمنية والسياسية هناك، وسبق لهما أن أجريا زيارات لتل أبيب. وعن الدور الإسرائيلي في مشهد الصراع السوداني، والذي يتّخذ شكل «الحياد الإيجابي»، ينبّه محرّر مجلّة «أفريكا كونفيدانشال»، المتخصّصة في الشأن الأفريقي، باتريك سميث، إلى أن العلاقات الخارجية لحميدتي والبرهان تندرج ضمن «لعبة الصراع على السلطة»، شارحاً أن «تطوير العلاقات مع إسرائيل يُعدّ وسيلة لشراء الدعم الأميركي» من قِبَل الأفرقاء السودانيين.
أيضاً، وكمؤشّر إلى ارتباط مجريات الوضع في السودان بالصراع الأميركي - الروسي في أوكرانيا، يلفت محلّلون غربيون إلى أن زيارة دقلو للعاصمة الروسية موسكو مع بداية الحرب، أثارت انزعاجاً واضحاً لدى أركان المؤسّسة العسكرية والأمنية في الولايات المتحدة، وخصوصاً أن قائد «الدعم السريع» بدا منفتحاً على السير قُدُماً بخطط روسيا لإقامة قاعدة بحرية على السواحل السودانية، فضلاً عمّا يُشاع عن تعاون بين قواته وقوات شركة «فاغنر» الروسية على الحدود السودانية - التشادية. وفي إشارة ضمنية إلى وجود انقسامات داخل إدارة جو بايدن حول مقاربة الملفّ السوداني، تكشف مصادر دبلوماسية مطّلعة لموقع «ميدل إيست آي»، أن البرهان أبدى معارضته لمشروع القاعدة الروسية. ويتقاطع ذلك مع ما كشفته مجلّة «أفريكان أنتليجنس» حول حضور ملفّ القاعدة العسكرية المذكورة على سواحل البحر الأحمر، في صلب محادثات رئيس المخابرات العسكرية السودانية المقرّب من البرهان، محمد صبير، إلى واشنطن منتصف كانون الثاني الماضي. ويوحي ما سبق بأن واشنطن ليست حاسمة في توجّهاتها حيال دعم «الاتفاق الإطاري»، باعتبار أنه يعزّز وضعية قائد «الدعم السريع» على حساب رئيس «المجلس السيادي»، ما قد يعني أنه من المبكر الحكم على مسار الأزمة في السودان، في انتظار اتّضاح مآلات المعركة الدائرة حالياً.