لن يتحدّث أحد عن إبادة جماعية هنا. لن يطالبوا بمحاكم جنايات دولية، ولن نسمع عن اتهامات بالتطهير العرقي. هنا، في غزة، يستطيع القاتل العاجز عن تحقيق أي إنجاز عسكري، إبادة عائلات بكاملها، وقتل أكثر من 400 طفل، وهدم مئات آلاف المنازل، وقصف المسعفين والمستشفيات ومدارس الإيواء، من دون أي رادع دولي. في غزة، حيث لا أمم متحدة ولا مجلس أمن ولا حقوق أقليات، يواجه الفلسطينيون الطائرات الحربية في ظلّ حصار خانق، وصمت عربي ودولي يزيد من ضيقه.
1942 شهيدا خلال العدوان الاسرائيلي على غزة، من بينهم 459 طفلاً، و 10193 جريحا، 3084 منهم أطفال. فوق ذلك، 470000 مهجّر، 26000 منهم في مدارس «الأونروا»، فيما فقد أكثر من مئة ألف مواطن منازلهم. هذه الأرقام وثّقها رئيس قسم الجراحات التجميلية والترميمية في الجامعة الأميركية في بيروت، الطبيب غسان أبو ستة، الذي توجّه إلى غزة مع بداية العدوان، وعرضها أمس، في محاضرة داخل الجامعة بعنوان «الحرب على غزة: انطباعات خاصة».
انضم الطبيب اللبناني ـ الفلسطيني إلى الطاقم ذي الإمكانات المتواضعة في مجمع الشفاء الطبي، عبر معبر بيت حانون (إيرز) ليمضي في غزة 16 يوماً، شاهداً على واحدة من أفظع الحروب الإسرائيلية. لم تكن هذه الحرب الأولى التي يعاينها أبو ستة (45 عاماً) في غزة، إذ شارك الطبيب في العمل الطبّي خلال حربي 2008 و2012 على القطاع، إضافة إلى حروب أخرى في العراق ولبنان، كحرب «عناقيد الغضب» عام 1996. وكان قد حاول دخول غزة هذه المرة عبر معبر رفح مع مصر، لكنه بقي منتظرا دون جدوى، فاضطر إلى استخدام جواز سفره البريطاني ليدخل عبر الأراضي المحتلة.
يؤكد أبو ستة في حديث مع «الأخبار» أن الفرق بين العدوان على غزة وتلك الحروب، أن غزة منطقة مغلقة تماماً، «هي أصغر مساحةً من بيروت الكبرى»، مضيفاً: «تعرّضت غزة لكمّ القصف نفسه الذي استُخدم في حرب تموز عام 2006 على لبنان، برغم اختلاف المساحة». كذلك فإن «ما يختلف في حالة غزة هو غياب الممرات الآمنة في القطاع، الذي يضمّ مليونا وثمانمئة ألف شخص»، يقول أبو ستة.
الطبيب الذي يروي بتأثر تجربته في غزة، يشدّد على غياب أي رادع أخلاقي في العدوان الإسرائيلي المتواصل، هذا على الأقل ما يظهر في قصف سيارات الإسعاف، والمستشفيات الممتلئة بالمرضى، كمستشفى «أبو يوسف النجار»، ومركز «الوفاء» لذوي الاحتياجات الخاصة. ويتحدّث أبو ستة عن المسعفين الذين عانوا إصابات بالغة من جراء القصف مثل البتر، إضافةً إلى أن معظم زملائه في مجمع «الشفاء» يواصلون عملهم على الرغم من فقدانهم أقرباءهم ومنازلهم في القصف.
كذلك تحدّث الطبيب عن سوق الشجاعية الذي قُصف أثناء توجه الغزيون إليه، بعد إعلان الهدنة، كدليل على همجية العدوان وتخطّيه لكل الحدود، إضافة إلى العائلات الغزيّة التي أبيدت في هذه الحرب.
بعد أيام من عودته من غزة، ومع استمرار العدوان، يؤكد أبو ستة أن الوضع في القطاع سيّئ جداً، في ظلّ الحصار الطبّي المفروض ومنع إدخال كل الفرق الطبية والمساعدات خلال الهدنة الأخيرة.
في ختام المحاضرة، علا تصفيق الحضور الذي وقف احتراماً لشجاعة أبو ستة. الطبيب النبيل اختار أن ينهي قراءته، بمقطع من قصيدة «الخط ده خطي» للشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم، كتبت على الشاشة التي استعرضت صوراً من الحرب، معظمُها لأطفال: «أول ما حَ نوفي بالوعد حَنسمّي/ باسم اللي ماتوا صغار/ في المدرسه والدار/ والمصنع اللي انهار/ فوق الصنايعية».