غزة | على قدر الخطورة نفسها، يعمل رجالات هندسة المتفجرات في قطاع غزة وهم يفككون مخلفات الاحتلال من الصواريخ والقذائف، تماما في حالة مشابهة للخطر الذي يتلقاه أولئك المقاومون ممن يتخندق في الكمائن أو يطلق الصواريخ. وهؤلاء الخبراء يعملون في حقل ألغام كونته بقايا الاحتلال في المناطق التي جرى تركيز الاستهداف فيها، وأيضا تحت تهديد الطائرات منذ أكثر من خمسة وأربعين يوماً.
ينزل خبراء المتفجرات المحليين إلى الميدان بقليل من الاحتياطات بسبب ضعف الإمكانات، ومهمتهم إبطال مفعول ما لم ينفجر على تنوع أشكاله وأحجامه، ويصلون بعد الإسعاف والدفاع المدني، ليباشروا مهماتهم قبل عودة المواطنين لتفقد بيوتهم أو حقولهم الزراعية، فيما مضى، كانوا يعملون ضمن فريق واحد ومقرهم مدينة ياسر عرفات للشرطة وسط مدينة غزة، لكنهم اليوم على ضوء الحرب يتخذون من الأماكن التي انسحبت إليها طواقم الدفاع المدني، وأحيانا تحت ظلال الأشجار، مقار لهم.
أحد الخبراء، ويدعى محمد مقداد، يقول إنهم يعملون وفق خطة طوارئ، وتوزعوا على محافظات قطاع غزة الخمس، لكن حجم المتفجرات التي ألقيت على غزة تصعب عملهم، مقدّرا أن ما قصف به الاحتلال خلال أسابيع الحرب (20 ألف طن) يعادل مفعول ست قنابل نووية صغيرة (تكتيكية).
ويتعامل الرجل وغيره من عناصر وحدة هندسة المتفجرات في جهاز الشرطة مع اتصالات المواطنين التي يتلقونها عبر الخط الساخن، والمتعلقة بالإبلاغ عن وجود أجسام مشبوهة أو مخلفات لم تنفجر. ويضطرون في أحيان كثيرة إلى التعاون مع مؤسسة الصليب الأحمر التي تنسق بدورها مع العدو، حتى يتاح لهم المجال للدخول إلى بعض المناطق.
حتى مرافقة هؤلاء في العمل مجازفة، لأن عددا كبيرا من مخلفات الحرب قد انفجر بعد وقت طويل من سقوطها وأوقعت خسائر في الأرواح، ويرجع خبراء الهندسة ذلك إلى نوعية الصواريخ والتقنية المعقدة التي أنتجت بها «وغايتها إيقاع أكبر حجم من الخسائر في صفوف المواطنين»، فضلا عن حديث أولي عن أن بعض الصواريخ فيها مؤقت لتنفجر لاحقا بعد سقوطها.
وباشر خبير المتفجرات، مقداد، تفكيك صاروخ سقط من طائرة حربية بالقرب من منطقة زراعية، لكنه كان حريصا جدا على إبعاد مراسل «الأخبار» عن المكان مسافة تزيد على عشرة أمتار تجنبا لحدوث انفجار. وكانت وحدة الهندسة في جهاز الشرطة قد فقدت ثلاثة من ضباطها إثر عملية تفكيك صواريخ إسرائيلية سقطت شمال القطاع دون أن تنفجر، وذلك قبل نحو عشرة أيام، كما استشهد خلال التفكيك صحافيان كانا يوثقان الحدث أحدهما أجنبي (إيطالي) والآخر فلسطيني، وأيضا سبقهم ثلاثة من الوحدة نفسها قضوا في الثامن والعشرين من تموز الماضي.
ويقول مقداد الذي لا يزال حزينا على فراق زملائه إنه كل مرة يحمد الله على أنه نجح في نزع الفتيل قبل أن ينفجر ويرديه قتيلا، أو أن يخلف ضحايا في المكان، ويؤكد، بعدما نزع الرأس المتفجر للصاروخ بين يديه بدقة متناهية، أن الاحتلال استخدم قنابل معقدة في حربه على غزة، مثلت سابقة هي الأولى منذ الصراع «كان منها قنبلة JDAM الأميركية التي تقل دقتها في التصويب عن 10 أمتار عن الهدف، ويزن رأسها المتفجر 454 كلغم».
على ضوء الخطر المحدق بالمواطنين، تحذر وحدة الهندسة في الشرطة من الاقتراب من الجسم المشبوه أو لمسه أو حتى تحريكه والعبث به، وخاصة بعدما راجت صور لأطفال كانوا يستهترون بمخلفات الحرب ويقذفون بها بأقدامهم أو يقفون عليها.
واستشعر خبير المتفجرات الذي تلقى تدريبا على أيدي خبراء أجانب في وقت سابق الخطر الشديد، حينما دخل منطقة الزنة شرق محافظة خان يونس، وهذه المنطقة كانت قد تعرضت لدمار كبير قبل أسابيع، معبرا عن صدمته وزملاءه من كم القذائف والصواريخ الملقاة على الطرقات وفي المنازل. وقال مقداد: «كانت مخلفات الحرب منتشرة في كل النواحي، وعندما باشرنا العمل في جمعها والتعامل معها كنا ننطق الشهادة، لأننا ندرك حجم خطورتها»، مؤكدا أن أكثر ما يصعب عملهم نظرية أن «الخطأ الأول هو الأخير، فلا مجال للاجتهاد».
من جهته، أرجع مدير وحدة هندسة المتفجرات في المحافظة الجنوبية، النقيب محمد الأسطل، غياب الألبسة الواقية ومعدات الحماية عن بعض عناصرهم إلى قلة الإمكانات جراء الحصار المفروض على غزة، «الأمر الذي كان يحول دون إدخال المعدات اللازمة»، لكنه لفت إلى أن فرقهم تتعامل مع مخلفات الحرب بحرفية ومهنية عالية.
وأوضح الأسطل، في حديث مع «الأخبار»، أن طواقمهم رغم خطورة بعض المناطق «عملت تحت النار وتمكنت من تفكيك مئات الصواريخ ذات الرؤوس الشديدة الانفجار، والقنابل الثقيلة ذات الحشوات المتفجرة».
ووفق توثيق مدير الوحدة فإن بعض الأسلحة المستخدمة لا يتوقف تأثيرها على القتل فحسب، «بل تحدث أضرارا بيئية، فضلا عن نشر الأمراض الخطيرة جراء احتوائها على مواد مشعة ومسرطنة، وتبين أنها تقضي على الأشجار والنباتات وتسبب تأثيرات مستقبلية في تشويه الأجنة».
وحذر الأسطل من خطورة القذائف المتشظية التي تطلقها الدبابات وتحتوي تكوينا مسماريا هدفه إيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف المواطنين، فيما فسر وجود عشرات حالات البتر من جراء إطلاق الاحتلال قذائف (الآبام APAM) التي تحتوي على أربع حجرات «كل واحدة منها تحتوي شفرات هدفها قطع الأعضاء»، مطالبا الجهات الدولية بالتحقيق في الأسلحة المستخدمة في الحرب على غزة وضرورة كبح الاحتلال عن قتل الفلسطينيين وتدمير بيئتهم.
في السياق نفسه، اتهم المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان جيش الاحتلال خلال عدوانه المتواصل باستخدام سلاح خطير يتسبب في تهتك أجساد المصابين، مؤكدا أن السلاح الذي يؤدي إلى جروح شبيهة هو المعروف باسم (الدايم DIME – المتفجرات المعدنية الثقيلة الخاملة).