غزة | في الحرب الجارية والسابقة كانت قضية الصيادين محور اهتمام المقاومة الفلسطينية ومن ورائها المفاوض السياسي، وذلك للعمل على توسعة مساحة الصيد التي يصلون فيها إلى ثلاثة أميال بحرية فيما كانت تنص اتفاقية أوسلو على 20 ميلا، وفي اتفاق عام 2012 جرى توسيعها إلى ستة أميال، ثم عمد الاحتلال إلى تقليصها مرتين في إجراءات عقابية ضد الفلسطينيين.
والصيد في غزة يمثل ركنا أساسيا من عمل الناس إلى جانب الزراعة في ظل وضع اقتصادي صعب، لكن الاحتلال ظل يمثل القلق الأكبر للصيادين، وهو الذي تعمد منذ بداية الانتفاضة تدمير زوارقهم الراسية على ميناء صغير غرب غزة.
«مشتاقون للبحر، وخرجنا للصيد الساعة الثانية عشرة ليلا بمجرد سماعنا بوجود تهدئة... منذ أكثر من 35 يوما نحاول ركوب أمواج البحر وتحريك مراكبنا، لكن البحرية الإسرائيلية تطلق النار علينا»، بهذه الكلمات تحدث الصياد محمد الأقرع، وهو عائد من البحر حاملا ما صادته شبكته.
الأقرع (34 عاما) هو من سكان مخيم النصيرات وسط القطاع، وأظهر سعادته لما جمعته شباكه من أسماك، لكن ما يثير حزنه أن الحرب الإسرائيلية جاءت في موسم هجرة الأسماك وسهولة اصطيادها، ما سبب خسائر مالية كبيرة لهم.

دمر نحو 52 مركبا معظمها لعائلة بكر التي استشهد أطفالها الأربعة


وبرغم المخاطر الكبيرة في إبحارهم ودوران الحرب، فإنهم يحاولون قدر المستطاع مزاولة مهنتهم في ظل وجود عائلات كثيرة خلفهم تنتظر الإعالة، لكنهم أيضا إن نجحوا في الصيد، فهم لا يجدون أسواقا مفتوحة للبيع والتربح.
على بعد قريب منهم، لا تزال زوارق الاحتلال الحربية تراقب الشاطئ وتطلق النيران عليهم، كما تطاردهم وترجعهم إلى البر، لكنهم يتجنبون نزول البحر إذا اشتد القصف. ودفع الخوف الصياد الأقرع إلى استخدام قارب المجداف البطيء بدلا من الميكانيكي حتى لا يلفت انتباه الإسرائيليين إليه.
يضيف لـ«الأخبار»: «خلال الهدنة اصطدت كميات جيدة من الأسماك لعلها تعوضني عن الخسائر الكبيرة التي سببها غيابي عن الصيد لنحو أكثر من الشهر».
وأدى العدوان على غزة إلى تدمير ما يقارب 52 مركباً معظمها لعائلة بكر التي فقدت أبناءها الأربعة في استهداف شاطئ البحر، كما يعتاش من هذه المهنة المتوقفة قسرا 4 آلاف صياد يعيلون 50 ألف فردا، وفق تقديرات نقابتهم.
وبرغم ادعاء إسرائيل السماح للصيادين بدخول عرض البحر لثلاثة أميال ضمن مبادرة أحادية الجانب، فإن الصيادين الغزاويين متخوفون بسبب انتشار الزوارق الحربية التي لم تتراجع عن مكانها برغم الإعلان الإسرائيلي. ويعلق بعض الصيادين بالقول إنه لا يمكنهم تصور أن يمروا قرب جنود الاحتلال دونما أن يعتدوا عليهم كما جرى في تجارب
ماضية.
الأقرع ذكر أنهم في صباح اليوم الأول للتهدئة صدموا بحجم الدمار الذي لحق بميناء غزة، وخاصة المخازن التي شيدتها مؤسسة «قطر» الخيرية قبل أقل من عام لتخفف عنهم عناء غرف الصفيح والخيام التقليدية، كما يشعر بالحزن الشديد على صديقه الصياد خميس سعد الله الذي كانت في غرفته معدات تقدر قيمتها بـ100 ألف دولار، «لذلك لن يكون بإمكان سعد الله الإبحار بعد الآن فهو بات صيادا بلا قارب أو
شباك».
ومنع تحديد الصيد لأكثر من ثلاثة أميال الصيادين من الحصول على الأسماك الكبيرة والأنواع الغالية الثمن التي تزيد دخلهم وتعوض خسائرهم خلال السنوات الأخيرة، لذلك يعلق صيادون كثيرون آمالهم على أن تتمكن المقاومة والوفد المفاوض من انتزاع هذا الحق
لهم.
وبادر صيادون آخرون إلى النزول إلى البحر منذ الهدنة الماضية خلال النهار حينما يشعرون بنوع من الهدوء مع حرصهم على المغادرة قبل الغروب بسبب تحول الشاطئ إلى منطقة خالية. هنا شجع الأقرع الصيادين ممن بقيت لهم مراكبهم وتجمهروا على شاطئ البحر للنزول إلى البحر وللضغط على زوارق الاحتلال وإبعادها عن الشاطئ بصورة جماعية وسلمية.
وتشير كميات الأسماك الكبيرة التي توافدت إلى الأسواق الغزاوية بصورة شبه يومية إلى انتصار إرادة الصيادين على الاحتلال، فكل الاعتداءات والإجراءات الإسرائيلية التعسفية لم تنجح في ثنيهم عن مواصلة عملهم. وأكد عدد من باعة الأسماك أن الكميات التي أخرجت من المياه خلال أيام الهدنة كانت جيدة نسبيا وتبشر بموسم ممتاز، لكنهم توقعوا أن تواصل الأسماك هجرتها قبالة سواحل القطاع بصورة كبرى خلال الأسابيع القلية المقبلة، وهذا ما يجعل أسعارها مرتفعة مقارنة بالأعوام الماضية بسبب زيادة الطلب وقلة عدد الصيادين الذين لا يزالون يمتلكون سفنا تستطيع أن تصل إلى أكثر من 2 كيلوغرام في عرض
البحر.
أما عن خسائر قطاع الصيد، فأكدت منظمة الأغذية العالمية «الفاو» أن غزة خسرت ما بين التاسع من تموز الماضي والتاسع من الشهر الجاري نحو 234.6 طنا من الأسماك التي كان بالإمكان صيدها، وهو ما يمثل 9.3% من إجمالي ما يجري اصطياده سنويا، وخاصة أن بحر غزة كان مغلقاً أمام الصيادين.