شهدت العمليات الفدائية في فلسطين خلال الأشهر الماضية تطوراً لافتاً. تحولت من فردية وعشوائية إلى عمليات معقدة ومخطط لها وينفذها شخصان أو ثلاثة. أمس، نفذ «الفدائيون الثلاثة»، أحمد راجح زكارنة ومحمد أحمد كميل وأحمد ناجح أبو الرب، أبناء جنين شمال رام الله عملية معقّدة تخللها طعن وإطلاق نار، في منطقة باب العمود في القدس المحتلة، وأدت إلى مقتل مجندة إسرائيلية وإصابة أربعة جنود آخرين.
منفذو العملية أصدقاء منذ الطفولة. تعلموا في المدرسة نفسها، واستشهدوا في العملية عينها. ثلاثتهم استشهد أبناء أعمامهم العام الماضي، حينما كانوا يحاولون تنفيذ عمليات طعن على حاجز الجلمة شمال جنين. الشهيد زكارنة فقد ابن عمه الشهيد محمد زكارنة (16عاماً). والشهيد أبو الرب فقد قريبه الشهيد أحمد عوض أبو الرب (17 عاماً). أما الشهيد كميل، فقد أُسر ابن عمه محمد مؤمن كميل (17 عاماً)، بعد محاولته تنفيذ عملية طعن على حاجز الموت نفسه.
صلة الدم لم تكن الرابط الوحيد بين شهداء أمس وشهداء العام الماضي، إضافة إلى أن فرسان جنين الثلاثة كانوا مقربين من الذين فقدوهم، فقد كانوا مقربين جداً من الشهيد أحمد عوض أبو الرب، الذي كان استشهاده أكثر ما أثّر فيهم، وهو ما يبدو أنه دفعهم إلى الثأر له.
عملية أمس، لم تكن الوحيدة التي كانت دوافعها ثأرية. مفجّر انتفاضة القدس الشهيد مهند حلبي، نفذ عمليته في أزقة القدس القديمة العام الماضي، ثأراً لصديقه ضياء تلاحمة الذي قتله جنود الاحتلال في بلدة دورا جنوب الخليل. دماء الشهيدة أشرقت قطناني ابنة مدينة نابلس، كانت دافعاً لتنفيذ الشهيد عصام ثوابتة عملية طعن قرب التجمع الاستيطاني «غوس عصيون». ولا ننسى عملية الشهيد رائد جرادات في الخليل، التي نفذها بعد مرور 24 ساعة ثأراً لاستشهاد دانيا ارشيد، التي كانت صورتها مضرجة بدمائها آخر ما نشره على صفحته على «فايسبوك».
حتى الآن، برغم مرور ما يقارب خمسة أشهر على انطلاقة «انتفاضة القدس»، لا يبدو أن العدو الصهيوني قادر على إيقاف العمليات الفدائية ضده، خصوصاً العمليات الثأرية التي بدأت تتخذ طابعاً عسكرياً. شهداء أمس، بناءً على الأسلحة التي كانوا يحملونها، من المؤكد أنهم حصلوا على مساعدة إحدى فصائل المقاومة. تمكنوا من تهريب رشاشين من نوع «كارل غوستاف» معدّل، عبر الحواجز الإسرائيلية من جنين إلى القدس. نجحوا في تسلّمها من دون اكتشاف أمرهم وتفكيك خليتهم قبل تنفيذ العملية مثلما جرى مع «خلية القدس»، التي أُلقي القبض على أفرادها أواخر العام الماضي، بعد شرائهم سلاحاً من النوع نفسه.
وتبين بعد استشهاد «#الفدائيون_الثلاثة»، أنهم كانوا يحملون «أكواع» (عبوات محلية الصنع)، لإلقائها على الجنود المتجمعين. ووفق سياق العملية، فإن التخطيط المسبق لها ظهر جلياً خلال تنفيذها. أدى كل شهيد الدور المطلوب منه: أحدهم ألهى أحد الجنود بإعطائه هويته والسماح له بتفتيشه، ما مكن رفيقيه من إطلاق النار وطعن الجنود.
تعيش الأجهزة الأمنية الإسرائيلية هذه الآونة حالة من التخبط، خصوصاً أن غالبية منفذي العمليات التي توصف بأنها استشهادية لا «سوابق أمنية» لهم. حتى إن غالبيتهم لا يصلون في المساجد المشتبه فيها تجنيد الشبان، لذلك هم خارج المتابعة الأمنية الإسرائيلية. هذه الخاصية، استفادت منها فصائل المقاومة، على ما يبدو، لتجنيد الشبان ومساعدتهم في تنفيذ عملياتهم. ولا بد أن يكتشف العدو ذات يوم أن الفصائل جنّدت مثل هؤلاء الشبان، في أراضي 1948 حيث كانوا، ولا يزالون، في انتظار تلقي الأوامر العسكرية للتحرك.
بعد استشهاد أبو الرب، كميل، وزكارنة أمس، ارتفع عدد شهداء انتفاضة القدس إلى 172 شهيداً، جزء كبير منهم قضوا ثأراً لمن سبقوهم. وحتماً سيجد شهداء جنين الثلاثة من يثأر لهم، خصوصاً أن الحصار الذي فرضه العدو على قرية قطابية رداً على العملية، سيحفّز آخرين على ذلك. وكما يقول الكاتب الإنكليزي صمئيل جونسون، إن «الانتقام فعل عاطفي بينما الثأر فعل عدالة»... ونحن ببساطة ننفذ عدالتنا القاسية في حق من احتل أرضنا.