بعيداً عن السجالات التي ستشهدها الساحة الإسرائيلية بشأن النتائج المباشرة وغير المباشرة للحرب على قطاع غزة، إلا أن القدر المتيقن هو أن ثلاثي العدوان، بنيامين نتنياهو وموشيه يعلون وبني غانتس، ومن يدور في فلكهم، سيُنظِّرون للانتصار. في المقابل، كل من تبقى داخل مؤسسة القرار على مستوى الحكومة والكنيست، والكثير من المحللين والخبراء، فضلاً عن الجمهور الاسرائيلي الذي قال كلمته عبر استطلاعات الرأي، يقرّون بالفشل.
يمكن القول إن إسرائيل اكتشفت خلال 51 يوماً من العدوان على قطاع غزة مجموعة من الخلاصات؛ منها ما كان له وقع الصدمة على المؤسسة الاسرائيلية، بفروعها السياسية والاستخبارية والعسكرية، ومنها ما كان موضع تساؤل إلا أن المواجهة العسكرية حسمت الجواب لمصلحة أحد الاتجاهات، ومنها ما كان حاضراً وأكدته مجدداً مجريات المواجهة والنتائج التي خلصت اليها.
اكتشفت إسرائيل، مرة أخرى، أنها بعد سنوات من التدريبات والتطوير والاستعدادات، لا ولم تملك الحل الناجع لمواجهة خيار المقاومة، بما تمثله من ثقافة وإرادة وعقيدة قتالية. واكتشف جيش العدو، مرة أخرى، أنه لم يتمكن حتى الآن من إبداع مفهوم عملياتي قادر على مواجهة تكتيكات المقاومة، رغم تواضع قدرات الاخيرة في قطاع غزة، بالقياس الى ما لدى حزب الله، وربطاً بالظروف المحيطة بها.

كان الرهان خاسرا
على القدرة الاستخبارية التي لم تحل معضلة الصواريخ

اكتشفت إسرائيل، مرة أخرى، أنه بالرغم من تفوقها التكنولوجي والعسكري، وقدراتها التدميرية الهائلة، لا قِبل لها في مواجهة حرب الاستنزاف. في حروب من هذا النوع، يكون العامل الحاسم للقدرة على الصمود وطول النفس، في حال تعرضه للضغوط والخسائر.
على ذلك، وبلا مبالغة، انكشفت إسرائيل، واكتشفت خرافة وزيف مقولة صمود جبهتها الداخلية. تجلى ذلك بإخلاء المستوطنين لمستوطناتهم، ورفضهم العودة اليها خوفاً من تسلل المقاومين ومن صواريخهم، وبالتراجع الحاد في نسب تأييد نتنياهو التي هبطت من 82% في بداية الحرب الى ما لا يتجاوز 38%، قبل يومين من اتفاق وقف النار. أهمية هذه النتائج تصبح أبلغ دلالة، مع الأخذ في الحسبان مجموعة ظروف ذات الصلة بقدرات المقاومة المحدودة قياساً ــ التي حالت دون تدفيع الجبهة الداخلية الإسرائيلية ــ بما يتناسب مع حجم العدوان والتضحيات التي لحقت بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
في المقابل، اكتشفت إسرائيل، مرة أخرى، أسطورة صمود الجبهة الداخلية الفلسطينية، التي تجلت في التفافها حول مقاومتها حتى اللحظة الأخيرة، بالرغم من أكثر ثلاثة عشر ألف إصابة، خلال 51 يوماً، أكثريتهم الساحقة من المدنيين، أي بمعدل نحو 260 إصابة في اليوم.
بعد فشل إسرائيل في حرب عام 2006 ، في مواجهة حزب الله، التي اكتشفت خلالها تعذر الحسم العسكري مع مقاومة حزب الله، منذ ذلك الحين، أعدّت إسرائيل وخططت لأن تكون حروبها المقبلة حاسمة وسريعة وواضحة. وهي أبعد ما تكون عن النتائج التي خلصت إليها المواجهة العسكرية مع قطاع غزة، حتى بمعايير ثلاثي العدوان، نتنياهو ويعلون وغانتس.
أيضاً، أعدّت إسرائيل، وخططت في السياق نفسه، لأن تكون حروبها المقبلة قائمة على الاستخبارات التي يفترض أن توفر البضاعة المطلوبة في لحظة الحقيقة للأسلحة الدقيقة التي تقوم بمعالجتها. لكن إسرائيل اكتشفت خلال 51 يوماً من العدوان، بما كان له وقع الصدمة، وهم الرهان على الاستخبارات كعامل حاسم في المعركة. وتجلى ذلك في فشلها في تنفيذ ضربة ابتدائية قاصمة لقدرات المقاومة الصاروخية.. وفي اكتشاف الأنفاق وحجمها ومستوى خطورتها، وفي ما يتعلق بمستوى استعداد المقاومة، وفي الإجمال في ملاحقة كوادر المقاومة وقادتها..
على خط مواز، أكدت إسرائيل ما كانت تعرفه سابقاً، واستندت اليه في تخطيطها وقرارها بالحرب على قطاع غزة، أنه عندما تكون هي أحد أطراف المعادلة، فإن الشرعية الدولية دائماً تكون في صفها. وحتى عندما يتحول المدنيون الى أهداف مباشرة لطائراتها وصواريخها، فإن أقصى ما يمكن أن يحظى به الضحايا موقف تضامني هنا وآخر هناك، وقدر من العتب الدولي على قادة إسرائيل، لكونها تفرط كثيراً في معدلات القتل التي يمكن أن تكون محمولة إذا لم تتجاوز أرقاماً معينة.
ولا ينبع الانحياز الغربي لمصلحة الدولة العبرية من كونها تملك قدرات خاصة في الإقناع أو قدرات استثنائية في الترويج، وهي كذلك، بل من كون هذا « العالم» قرر مسبقاً الإصغاء للصوت الاسرائيلي، وفقط. ويمكن التأكيد على أن هذه هي أهم رسالة أرادت تل أبيب توجيهها الى أعدائها في المنطقة، وتحديداً على جبهتها الشمالية. لكن في المقابل، نفس هذه الرسالة أكدت لشعوب المنطقة أن قدراتها الذاتية هي فقط من يحميها من أي عدوان إسرائيلي، وأن لا خيار أمامها سوى مواصلة مراكمة قدراتها على المستوى النوعي والكمي.
رغم أنها لم تقدم جديداً، أكدت إسرائيل، مرة أخرى، أنه مهما بلغ حجم الضحايا الفلسطينيين، فإن ذلك لن يغير من المعادلة العربية إزاء قضية فلسطين وشعبها. لكن من أهم ما اكتشفته إسرائيل، بغض النظر عن تفسيراته وأسبابه، أن أقصى ما يمكن أن تتخوف منه انطلاقاً من الضفة الغربية، في هذه المرحلة، التي يفترض أنها جزء من ساحة وجبهة المواجهة على أرض فلسطين، هو ما شهدته من تظاهرات تضامن وغضب متواضعة، فقط، رغم سقوط أكثر من ثلاثة عشر ألف إصابة في قطاع غزة.