يتحدث بعض المسؤولين السعوديين عن أنهم فوجئوا بالإرهاب الذي يمارسه «داعش». والحقيقة هي أنه قد لا يكون هناك شيء مفاجئ سوى هذا التفاجؤ السعودي نفسه! فـ«داعش» اليوم هو مجرد اسم جديد، آخر، للتنظيم الذي شُكل في بلاد الرافدين تحت مسمى «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين»، وهذا التنظيم ما هو سوى شظية من شظايا تنظيم «القاعدة» الذي أنشأه أسامة بن لادن في أفغانستان في عام 1988 وذلك بعد قرابة عقد أمضاه بن لادن وعرب آخرون، غالبيتهم الساحقة سعوديون، في قتال السوفيات، أو كما يقولون هم في «الجهاد».
لم تكن تلك الحماسة السعودية لتمويل «الجهاد» في أفغانستان سوى وسيلة لتجنب أزمة داخلية. فآل سعود كانوا قد هزموا خصومهم في الماضي من خلال تحالفهم مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وادّعوا أنهم القيّمون على تطبيق الحدود الشرعية والإسلام الصحيح، فأعملوا السيف في رقاب خصومهم حتى دانت لهم شبه الجزيرة العربية، وعاش السكان هناك في ظل حكمٍ لا يختلف، من حيث الجوهر أو المظهر، عن حكم الدواعش اليوم. فمصدر أفكار آل سعود والبغدادي هو فكر محمد بن عبد الوهاب. وهل يستطيع عاقل أن ينكر هذا أو يجادل فيه؟ فقبل أن تهدم قبور الأولياء ومقامات الأنبياء في الموصل، هدمت قبور الصحابة في مكة، وكادت المعاول، لم يكن هناك جرافات يومها، أن تمتد لتهدم قبر النبي محمد (ص) سنة 1926 لولا أن تصاعدت موجة احتجاج عارمة في العالم الإسلامي.
هكذا، باختصار، بدأ حكم آل سعود، وهكذا يستمر إلى اليوم. ولكن ما لم يحتسب له النظام السعودي، أو رجال الدين الذين يحللون ويحرمون له، هي أن يخرج عليهم من يزايد عليهم في تطبيق الفكر الوهابي. صحيح أن النظام السعودي يطبق المذهب الوهابي وأحكامه المختلفة على الشعب في بلاد الجزيرة العربية، ولكن أفراد هذا النظام يخالفون أغلب تعاليم هذا المذهب، وخصوصاً في سياستهم الخارجية وممارسات أفراد الأسرة الحاكمة، وهم يقدرون ببضعة آلافٍ اليوم.
كان مصدر المفاجأة المذكورة هو «جهيمان العتيبي»، الضابط السابق في الحرس الوطني السعودي، والدارس للعلوم الشرعية الذي نشر لسنوات مخطوطات تفضح الحكم السعودي وتقصيره. صعّد العتيبي من نشاطه إلى أن قام، وبعض مريديه، باحتلال الحرم المكي، يوم 2 تشرين الثاني 1979، آخذاً مئات المصلين رهائن لأكثر من أسبوعين، وقف خلالها الحكم السعودي على قدم واحدة: كيف يمكن إثبات أن العتيبي مخطئ؟ والأهم، كيف يمكن أن لا يخرج، من بين مئات ألوف الدارسين للفكر الوهابي، متطرف آخر يزايد على آل سعود؟ أرّقت هذه الأسئلة الحكام في السعودية لأسابيع، إلى أن جاءهم الفرج عندما غزا السوفيات أفغانستان، وما مثّله ذلك من فرصة لتصدير المتطرفين السعوديين، ومعهم الأزمة السعودية، إلى أفغانستان بحجة واجب الجهاد.
تلك كانت البداية الأولى. ومنذ ذلك الحين، والسعودية تلعب مع هؤلاء المتطرفين لعبةً قذرة: فكلما تنامى التيار الوهابي المتطرف في السعودية وجدت له متنفساً في مكان ما. ويكفي المرء أن يتذكر متى كانت تزداد الأعمال الإرهابية في السعودية لتختفي فجأة وتندلع في أماكن أخرى.
كانت المرة الأخيرة التي تقع فيها تفجيرات في المملكة في الفترة التي أعقبت غزو العراق، يومها خرج الملك السعودي عبد الله، بعد الغزو بثلاث سنوات، في القمة العربية، ليندد بالاحتلال الأميركي، ليخلق محرقة جديدة للوهابيين المتطرفين، ولخصوم السعودية أيضاً. فدعم الجماعات الوهابية في الخارج أصبح، عملياً، سلاحاً متعدد الفوائد. ولعل هذا ما يبرر التلكؤ السعودي اليوم في محاربة «داعش» الذي تريد له السعودية أن يبقى سكيناً مصلتةً على رقاب خصومها في الخارج، ولكنها تخشى أيضاً أن تكبر السكين وتصبح سيفاً ينال من رأس النظام السعودي ذاته.