رصد في اللحظات الأخيرة قبل الاتفاق على وقف الحرب في غزة بوساطة مصرية هجوم ملحوظ على أداء حركة «الجهاد الإسلامي» وعلاقتها بمصر، وخاصة مع بقاء وفدها بعد انهيار الهدنة الثالثة في القاهرة. وكي يكون التحليل موضوعياً بشأن النتيجة التي خلص إليها الوفد، لا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة وموازين القوى، وأهداف الأطراف المشاركة في الفعل.
من دون ذلك، يبقى أي تحليل رهينة انطباعات أو أهواء أو نزوات خاصة وحتى جماعية يعبر عنها في لحظات انفعال دون البحث في العمق. لذلك يجب أن يخضع تحليل وقف النار الذي جرى التوصل إليه لكل الخطوات الماضية، وإلا جاء الاستنتاج أعوج.
فلننظر أولا إلى أن هذه الجولة من المواجهة حسمت نتيجتها العسكرية بمعزل عن مخرجها السياسي. فلقد قطعت المقاومة النتائج المباشرة للحرب عسكرياً في منتصف المعركة عندما أخفق العدو في تحقيق أي من أهدافه العسكرية، مقابل أداء عسكري مميز للمقاومة، وخاصة على البر، ولولا العدد المرتفع من المدنيين الذين قتلوا بآلة الإجرام الإسرائيلية، وأراد العدو بذلك أن يثقل كاهل المقاومة ويرفع كلفة الانتصار، لأمكن القول إن هذه الجولة ما كانت لتتحقق قبل الإقرار بكامل شروط المقاومة.

اكتشفنا في القاهرة
أن حصار غزة ليس مسألة إسرائيلية بحتة

ووفق إفادة مصادر متقاطعة من عدة فصائل، فإن المعركة السياسية خلال الحرب كانت على درجة التعقيد نفسها في الميدان، ويمكن الإشارة إلى تصريح لنائب الأمين العام لحركة «الجهاد»، زياد النخالة، قال فيه: «لقد اكتشفنا في القاهرة أن حصار غزة ليس مسألة إسرائيلية بحتة، بل هناك عدد من الأطراف المشاركين فيه».
أمام ذلك كان على الوفد الفلسطيني أربع مهمات مجتمعة: الأولى الحفاظ على وحدة موقف الوفد، والثانية مراعاة الجانب المصري بناء على قاعدة أنه لا يمكن فك الحصار من دون موافقة القاهرة، والثالثة الأخذ بالاعتبار تعقيدات المشهد الإقليمي، ولاسيما الصراع القائم بين محوري: قطر ـ تركيا من جهة، ومصر ـ السعودية من جهة ثانية، والمهمة الرابعة والأصعب: التفاوض مع العدو.
بهذه الشاكلة كان الوفد الفلسطيني يتحرك في حقل ألغام، ويسير على حبال مشدودة يمكن أن تنقطع في أي لحظة، بل يمكن لأي حسابات غير صحيحة أن تحول النصر العسكري إلى خسارة سياسية كبيرة. لذلك، حرص الوفد الفلسطيني، وفي مقدمته وفد «الجهاد الإسلامي»، الذي تلقى أوامر واضحة بالبقاء في القاهرة حتى بعد انهيار المفاوضات، على ألا يضيع الانتصار وألا تهدر دماء الشهداء وعذابات المشردين، وذلك بالعمل على قاعدة «التركيز على أن التناقض الوحيد يجب أن يوجه إلى العدو وحده، وأنه لا مصلحة لشعبنا في الدخول في لعبة المحاور الإقليمية التي يمكن أن تضيّع كل إنجاز كما هي عادة العرب».
أيضا لا يمكن إغفال حرص الوفد الفلسطيني المشترك على تحقيق الهدف المركزي الذي حددته المقاومة منذ اللحظة الأولى لدفاعها وصدّها العدوان، وهو أنه قد آن الأوان لفك الحصار عن غزة.
نتيجة ذلك، وبعد تعثر الجهود، التقطت قيادة «الجهاد» اللحظة وقدمت مبادرة ركيزتها الأساس وقف متبادل لإطلاق النار يتزامن مع فتح المعابر والسماح بدخول المواد الطبية والغذائية ومواد البناء، وتأجيل كل القضايا الأخرى إلى مفاوضات غير مباشرة برعاية مصرية تجري خلال شهر. وجرى الاتجاه إلى ذلك، لأنه في الأيام الأخيرة للمعركة ظهرت مؤشرات متعددة على أن ثمة من بدأ البحث عن الاستثمار السياسي على المستوى الداخلي والإقليمي للمعركة، قبل تأكيد الانتصار والحصول على تنازلات إسرائيلية، لذلك كانت المخاوف أن هناك من قد تطيح أوهامه وأحلامه الانتصار الذي تحقق، وهي مخاوف جدية وحقيقية.
ومن أجل اكتشاف الفرق بين العمل على أساسات سياسية معينة، والحفاظ على رؤية المقاومة، جاءت رسائل مشفرة أرسلها الأمين العام لـ«الجهاد الإسلامي»، رمضان عبد الله شلح، في مؤتمره الصحافي في بيروت، وكانت لها عناوين واضحة قال فيها: «لقد دفن اتفاق أوسلو تحت ركام الصواريخ في غزة، وآن الأوان للعمل على نقل الكفاح المسلح إلى الضفة المحتلة»، وأيضاً: «نبقي معبر رفح أمانة لدى مصر».
هذه الرسائل المتعددة الاتجاهات تعني الكثير، وهو ما ستكشف عنه الأيام المقبلة، لكن الأكيد أن الوفد المشترك في القاهرة استنفد مهمته، لذلك فأي تأخير في تحويل النصر الميداني إلى مكسب سياسي سيدخل ليس قطاع غزة فحسب، بل قضية فلسطين ومستقبل المقاومة أيضا، في المجهول. ومقابل ذلك سارع شلح إلى تحمل المسؤولية التاريخية، وأعلن النصر من قلب بيروت، مع العلم أنه أشار إلى رمزية المكان، وهو بحد ذاته رسالة في أكثر من اتجاه.