بالتزامن مع التحركات الرفيعة في المنطقة، ومع أول يوم من الشهر الحالي، رمت طائرات أميركية مناشير فوق مدينة الموصل تدعو السكان إلى الحذر وأخذ الحيطة والابتعاد عن مراكز تجمع «داعش» ومقارّه. حذرت المنشورات من أن قصفاً شديداً سيستهدف تلك المقارّ. في اليوم الثاني فتح الطريق الرئيسي الواصل بين تكريت وكركوك، الذي ظل مقطوعاً منذ سقوط الموصل ومدن أخرى في شهر حزيران الماضي.
لوحظ أن حجم المساهمة الأميركية إلى جانب القوة الجوية العراقية في تأمين الطريق كان أكبر من المعتاد، وخصوصاً إذا ما قورن بحجم التدخل أثناء تحرير منطقة «امرلي» قبل بضعة أيام، حيث اكتفى الأميركيون بالمساعدات الإنسانية. في حالة وحيدة كان الأميركيون مشاركين بحماسة، كان أقرب إلى الذعر، وذلك في ليلة الثامن من الشهر الماضي حين فوجئوا باقتراب طلائع «داعش» من أربيل. التحرك الأميركي كان يوازي المخاطر التي كشف عنها الوضع الكردي العسكري والأمني. هشاشة مرعبة مقارنة بحجم وخطورة المصالح المودعة في كردستان، وحساسيتها.
جرى التدخل بسرعة من طريق الطيران، وأُنقذت أربيل من تهديد خطر، بعدها قرر الأميركيون استعادة سد الموصل وسنجار بتحريك «البشمركة» تحت الأمر العسكري الأميركي وبقيادة مباشرة، وبزخم مشاركة جوية كثيفة. وكانت قوات البشمركة قد انسحبت قبل ذلك من سنجار ومن سدّ الموصل ومن مناطق عديدة، تركوها مكشوفة أمام زحف «داعش» وهمجيتها ضد السكان وضد المكونات العراقية المختلفة في المنطقة.

كأنما واشنطن انتبهت فجأة إلى خطر بدأ يقترب من «كنز» متكتم عليه في كردستان


لن ندخل منطقة الغموض الذي واكب عملية احتلال الموصل وغيرها، ولا الدور الذي اضطلع به الأكراد في الأحداث. «حزب العمال الكردستاني» نشر بعد سقوط الموصل معلومات عن اشتراك رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني شخصياً في الاجتماعات التي كانت تعقد في العاصمة الأردنية عمان، تحضيراً للهجوم الذي يعود في الأصل إلى خطة سبق أن وضعها بندر بن سلطان، وكان ينوي تنفيذها بالتزامن مع أزمة السلاح الكيميائي والضربة الأميركية لسوريا، بحيث تتزامن الضربة التي يتلقاها النظام السوري، مع هزيمة قاسية في العراق لإيران. مسعود البارزاني زار عمان في حينه بالفعل، وأنا شخصياً كتبت عن زيارته في إحدى الصحف العربية، متسائلاً عن سبب الزيارة، مع أن عمان لا تشكل عنصراً فعالاً، أو مباشراً في صراعات الزعيم الكردي مع مركز السلطة في بغداد.
هل يتعلق الأمر بخرافة سياسية جديدة تضاف إلى جملة الخرافات الأميركية التي لا تحصى في المنطقة؟ وهل أرادت الولايات المتحدة ـ التي رفضت وقتها «خطة بندر» وضغطت لإزاحته بسببها ولأسباب مشابهة ـ أن تعود لتستعملها معدلة ضمن سياقات تعيد بموجبها تطمين السعودية ودول الخليج بتوفير عامل ضغط مباشر وفعلي على إيران في العراق يتأتى من خلق أمر واقع تخرج بموجبه محافظات عدة من يد السلطة الاتحادية كما حدث بالفعل؟ ثم، هل فرضت التناقضات، إضافة إلى ضعف التبلور السياسي والعشائري المعروف في تلك المنطقة، وأولها الموصل، إلى قبول مبدأ اشتراك «داعش» على رأس بقية التنظيمات «البعثية» والإسلامية، قبل أن تبادر «داعش» إلى استغلال الموقف وتقرر التفرد وإلغاء دور القوى المتحالفة معها؟
يستحيل الجزم بصورة قاطعة بشأن أي من الاحتمالات المذكورة أعلاه، والأرجح أن لا أحد من المشاركين فيها، بمن فيهم أميركا و«داعش» والأكراد، يمكنه أن يكون قاطعاً ويختار واحداً منها. فبندر بن سلطان عاد إلى المملكة مع أو قبيل تنفيذ عملية الموصل، وكان في الطائرة نفسها التي أقلت الملك عبد الله بن عبد العزيز من المغرب، ليتسلم ملف العراق. وبما أن الشخص الذي حل محله أثناء فترة غيابه أو إبعاده ليس من العائلة المالكة، فمن البديهي أن يكون بندر قد عاد فعلياً إلى ترؤس المخابرات السعودية.
والأكراد أعطوا مؤشرات عملية واضحة على تحبيذهم لما جرى في حزيران، و«البعثيون» والتنظيمات الإسلامية الصغيرة الأخرى أبدوا حماسة وانخرطوا في العملية إلى جانب «داعش»، لا بل جرى الادعاء أو محاولة تصوير الأمر وكأنه «انتفاضة لأبناء عشائر المنطقة»، بينما ظل الأميركيون يراقبون ما يجري. أما كيف تطور المشهد وإلى أين وصل، فتلك نتيجة قد لا تكون وضعت في الحسبان من قبل، أو أنها يمكن أن تكون موضوعة في الأفق كاحتمال بعيد ولا يستحق الاهتمام، لكن المؤكد أن الجانب الأميركي لم يكن قد حسب حساب الخطر الذي يمكن أن يهدد كردستان نتيجة تلك العملية.
اللافت جداً للانتباه هو سرعة التصرف الأميركي الذي تبع مباشرة وصول «داعش» إلى مشارف اربيل. فكأنما الولايات المتحدة انتبهت فجأة لخطر بدأ يقترب من «كنز» متكتم عليه مودع هناك. فهل يتعلق الأمر بمصالح واستثمارات الشركات الأميركية الكبرى العاملة في أربيل فقط؟ هذا أول ما تبادر إلى أذهان المراقبين قبل أن تذهب بهم التخمينات الى ما هو أبعد. وفي مثل هذه الحالة تخطر إسرائيل على البال، فالأرضية هنا مهيأة لتضخيم الشك والتقولات حول العلاقات السرية بين الأكراد والدولة العبرية. فما هي الأسرار الإسرائيلية في كردستان بالفعل؟ فتح بالمناسبة أيضاً باب احتمال وجود منصة أو منصات لتجسس ضخمة، فذكر البعض أن هذه المنطقة من العراق هي الأفضل في الظروف الراهنة للتنصت على إيران وروسيا، وأن تركيا، التي كانت أيام الاتحاد السوفياتي قاعدة تضم آلاف محطات التنصت، لم تعد صالحة كما كانت. اللافت أيضاً هو ما بدأ يلاحظ من تراجع سريع في الحرص على الحفاظ على المناطق الخارجة عن سلطة الحكومة الاتحادية في بغداد. فالأكراد بدؤوا يميلون أخيراً إلى التفاوض على تشكيل الحكومة الجديدة بعد تكليف حيدر العبادي، كذلك أدوا دوراً ملحوظاً في دفع الأطراف السنية الأخرى إلى طاولة المفاوضات. وبدأ هؤلاء يميلون إلى التعاون العسكري مع الجيش الاتحادي، وهو ما تجسد خلال عملية تحرير امرلي. وبما أنهم يعملون الآن تحت السقف الأميركي، فمن المؤكد أنهم سيشاركون في طرد «داعش» من الموصل، الأمر الذي تؤكد الدلائل أن الاميركيين مقدمون عليه إلى جانب الجيش الاتحادي، ليعود فيتقلص إلى ادنى درجة الحرص على الجانب العسكري من عملية «الضغط» التي سوغت في وقت سابق احتلال الموصل وبقية المدن.
هل أفضت التجربة الأخيرة وبسرعة لتعزيز الاعتقاد بأن الصراع مع إيران في العراق يقتضي اعتماد وسائل أقل تطرفاً وعلنية مما تعتقده بعض الجهات؟ وهل تدخل مسألة أمن كردستان كعنصر أساسي حاسم في تعيين أولويات المعركة وفقاً للحسابات الإسرائيلية ـ الأميركية؟ ثم هل يعني ذلك أن المستوى السياسي في الصراع على هذه الجبهة، هو وكما ثبت بالتجربة أقصى ما يمكن التفكير فيه، إذا أريد الحفاظ على جبهة أكثر فعالية؟
كل هذه الأسئلة سيُجاب عنها مع بدء تزايد التورط الأميركي، بالأخص في الموصل والمناطق المحاذية لكردستان، وهو ما توضع له الآن لافتة وتسمية عنوانها «الحرب ضد داعش والإرهاب»، وما تسعى الولايات المتحدة لتأمين جانب من مقوماته في العواصم العربية والشرق أوسطية.
بعض المصادر التي تواكب التحركات الاميركية، قالت إن السعودية وقطر لم تفوتا الفرصة، فجددتا أمام الأميركيين حلمهما القديم بأن تستغل الخطة أو العمليات العسكرية المزمع القيام بها لإسقاط النظام السوري. وإذا أمكن بالفعل اعتماد سلم تصاعدي للعمليات العسكرية يبدأ من الموصل ويتمدد داخل سوريا، فإن احتمالات استغلال الموقف وتوجيه ضربات للقوات السورية النظامية لن تعود مستبعدة.
بعض المتابعين يعتقدون ان من حق النظام السوري ان يتولد لديه أخيراً شعور بالتحول إلى متراس خلفي، وهو يخشى أن يصبح الدعم الإيراني والروسي أقل فعالية في ظل المتغيرات المتوقعة، وخصوصاً حين يكون المدخل لإسقاطه حجة «إنهاء الإرهاب وداعش».
* كاتب عراقي




أين إيران وروسيا؟

من توقع تحركاً إيرانياً ضخماً في العراق بعد سقوط الموصل، لاحظ أن طهران ساكنة ومتأنية. هي ركزت على دعم الحلول العراقية ـ العراقية، فأيدت فتوى الجهاد الصادرة عن السيّد علي السيستاني وقتها، كذلك أيد مرشد الجمهورية، السيد علي خامنئي، موقف المرجع السيستاني من مسألة الوزارة، وبالأخص ضرورة تغيير الرئيس نوري المالكي. لم تلجأ ايران إلى أي خطوات يمكن اعتبارها استثنائية، او تدل على استنفار مبعثه التطورات العراقية الأخيرة. روسيا أيضاً اتخذت موقف المراقب. هل تعيد العاصمتان تقويم الموقف وتراقبان؟ هل هما بصدد تغيير مقاربتهما للتطورات؟ وهل سيسمح للولايات المتحدة ومن معها بأن تغير قواعد اللعبة من طرف واحد؟
يمكن المرء أن يكون واثقاً من أن ذلك لن يحصل، وأن محاولة الولايات المتحدة الملتوية للعودة لسياسة التفرد في المنطقة لن يكتب لها النجاح، إلا أن الأمر الأكثر خطورة وأهمية هو أن المنطقة تتجه نحو تغيير في قواعد الصراع الاستراتيجي، وأن حلقة أخطر بكثير مما مضى توشك أن تطل على المنطقة، وأنها ستستثير متغيرات شاملة في المقاربات والمواقف والخطط، عنوانها الأكبر :انتقال بؤرة الصراع الاستراتيجي نحو العراق.