يمكن أن نفهم الكثير عن النظام السياسي والاجتماعي لبلد ما من طريقة ادارة هذا البلد لموارده الطبيعية. في مصر، كانت احتياطات الغاز تمثل فرصة لا تتكرر للمصريين من أجل النهوض بواقعهم الاقتصادي والاستفادة من طاقة رخيصة وخلق ميزات تفاضلية لصناعات محلية. مع تصاعد الانتاج في أواخر التسعينيات، كان الغاز الطبيعي هبة ربانية لمصر، الكثيرة السكان والحاجات، التي كان انتاجها النفطي قد بدأ بالانخفاض منذ عقود (اذ تجاوز استهلاك مصر النفطي انتاجها عام 2010) وهي لا تملك موارد طاقوية بديلة.
كيف إذاً صارت مصر ـ بدلاً من الوفرة ـ تعجز عن تلبية تعهداتها التصديرية، وتسعى إلى استيراد الغاز من إسرائيل، وينوء شعبها تحت عجز خانق في إنتاج الكهرباء؟ الإجابة تنطلق من أساسيات صناعة الغاز وشروطها، اذ على عكس ما يعتقد البعض، فإن حقول النفط والغاز لا تنتج إلى الأبد، ولا هي كلها من فئة الحقول الهائلة في الخليج التي تستمر في إنتاجها لأجيال. حقل النفط له دورة حياة محددة: يبدأ استخراج النفط، ثم يرتفع الإنتاج ويثبت على حد معين، ثم يبدأ الحقل بالـ «نضج» والنضوب، وهي دورة تستغرق بكاملها بين 15 و25 عاماً ـ بحسب حجم المورد ووتيرة الاستخراج. أما حقل الغاز، فإن دورة حياته أقصر من حقول النفط (بسبب طبيعة الغاز وسهولة استخراجه)، ومن الممكن لشركة تبغي الربح السريع أن تفرغ حقلاً غازياً خلال أقل من نصف المدة المذكورة أعلاه.
من هنا، فإن استغلال موارد الطاقة يُبرمج عادةً على أساس دورة الانتاج هذه وحاجات البلد، ويكون استثمار الاحتياطات مؤقتاً على نحو يضمن استمرارية الانتاج واستقراره، ويخدم أولويات الاستهلاك. أما في مصر، فقد وصلنا، بعد سنوات من الاستغلال المكثف للثروة الغازية، إلى أسوأ سيناريو ممكن: الاحتياطات القديمة بدأت تنفد ولما يُستثمَر بديل لها بعد، بينما ذهب القسم الأكبر من الثروة إلى التصدير الرخيص وصناعات تملكها حفنة من المحظيين سياسياً. هنا تبدأ قصة أزمة الكهرباء القائمة اليوم في مصر، وما هي إلا العارض الأخير لعملية النهب الذي تعرضت له ثروة الشعب على طول العقد الماضي.

مزايا الغاز

هناك فارقٌ جوهري بين الغاز الطبيعي ومصادر الطاقة الأخرى، تحديداً النفط، يتعلق بالبنية السعرية للمنتجين. حين تستهلك نفطاً مستورداً، في أوروبا الغربية مثلاً، فإن سعره (ناقصا الضرائب والرسوم) لا يختلف كثيراً عن قيمته في موقع استخراجه، إذ إن كلفة نقل النفط (وهو سائلٌ كثيف طاقوياً وسهل التخزين) لا تمثل الا زيادةً بسيطة على ثمنه. أما ثمن الغاز في أوروبا الغربية ـ أو كوريا أو اليابان أو أيّ بلد مستورد ـ فيزيد أضعافاً عن سعر المقدار نفسه في مكان الاستخراج، فكلفة نقل الغاز، عبر تسييله أو بناء الأنابيب، تمثل الجزء الأكبر من سعره حين يباع في أسواق تبعد آلاف الكيلومترات عن المصدر ـ وهذه «العلاوة الجغرافية» التي تميز الغاز لها انعكاسات اقتصادية مهمة.
هذا يعطي امتيازاً خاصاً للدول التي تملك احتياطات غازية كبيرة، فطبيعة تسعير الغاز تعني أن ثمن كمية الطاقة نفسها في هذا البلد، إن جاءت من الغاز المحلي (من دون تخفيضات ودعم)، أقل بكثير من سعرها في أي مكان آخر، سواء جرى استعمال الغاز المستورد أو النفط بسعره العالمي. وبالتالي، تحظى هذه الدول بأفضلية اقتصادية هائلة في كل الصناعات الكثيفة طاقوياً، كإنتاج الفولاذ والألمنيوم (فالجزء الأكبر من سعر الفولاذ هو فعلياً ثمن الطاقة التي يستلزمها تحويله وإنتاجه)، إضافة إلى الصناعات التي تستعمل الغاز أساسا لمنتجات أخرى، كالبتروكيمياويات والأسمدة. في الغرب مثلاً، حيث تعتمد شركات البتروكيمياويات تقليدياً على الـ «نافتا»، وهو مشتق نفطي، لإنتاج البلاستيكات وغيرها، تكون كلفة الإنتاج أعلى بثلاث مرات أو أكثر من دول تستعمل غازها الوفير والرخيص لصنع المنتجات نفسها، كالسعودية وإيران.

مثلت عقود
التصدير الفضيحة
الأكبر إذ مثلت سرقة مكشوفة للمال العام


إسرائيل استأثرت
بثلث صادرات
الغاز المصري في
تلك الفترة

إضافة إلى ذلك، فإن الغاز هو أنظف أشكال الوقود الأحفوري، وهو مثالي لإنتاج الكهرباء، فكيف إذا كان البلد يمتلك احتياطات محلية وغازاً رخيصاً؟ لهذه الأسباب، تقول النظرية إن الغاز ـ على عكس النفط ـ يجب أن يجري استهلاكه في الداخل أولاً، وأن يستفاد منه لخلق ميزات تفاضلية للاقتصاد المحلي ولخفض فاتورة الطاقة، ولا يكون التصدير إلا للفائض. فكل استعمال ممكن للغاز الوطني ينطوي على توفير ومزايا، سواء في النقل أو انتاج الكهرباء أو الصناعات؛ على عكس النفط، الذي يستحسن، اقتصادياً، تصدير أكبر كمية ممكنة منه وترشيد الاستهلاك الوطني، لأنه ما من ميزة لاستهلاك النفط محلياً على تصديره، بل إن بيعه للشعب بأسعار دون السعر العالمي يعني خسارة صافية ومباشرة ويشجع على الهدر. هكذا بنى الاتحاد السّوفياتي في الستينيات، بعد اكتشاف مكامن الغاز الضخمة في أراضيه، أكثر صناعاته التي ما زالت تنافس إلى اليوم على أساس الثروة الغازية والميزة التفاضلية التي تؤمنها، مع بناء شبكة أنابيب هائلة تصل أرجاء الامبراطورية السوفياتية بعض ببعض، فيغذي غاز غرب سيبيريا، مثلاً، مصانع الفولاذ في أوكرانيا، فيما يصدر الفائض إلى أوروبا.

الفرصة الضائعة

مثلما أن الغاز يمكن أن يُستثمر لتحفيز قفزة نوعية في اقتصاد البلد، فهو أيضاً يصلح لخلق ثروات هائلة لعدد قليل من الأفراد، وهذا تقريباً ما حصل في مصر. أولاً، ذهب جزءٌ مهمٌ من الاستهلاك الداخلي إلى شركات خاصة استفادت من الطاقة الرخيصة لجني أرباح هائلة من دون مخاطر، ولعل أبرز هذه الحالات مثال أحمد عز، بليونير الصلب الذي جمع ثروته عبر شراء المؤسسات العامة بأسعار بخسة، ومن ثم الاستفادة من الغاز الوطني لانتاج الفولاذ بهامش أرباح هائل؛ وهذه العملية بأكملها كانت تدار بمنطق الفساد السياسي وتوزيع المغانم والحصص (كما تبين في الشهادات والاعترافات التي تلت سقوط نظام مبارك ومحاكمة عز).
أما الفضيحة الأكبر فقد تمثلت في عقود التصدير، التي حجزت قسماً مهماً من انتاج الغاز المصري/ ومثلت ما يشبه السرقة المكشوفة للمال العام، وانطوت عقودها على فساد وتورط لسياسيين ولأجهزة سيادية. منذ بداية الاستغلال المكثف للغاز، في بداية الألفية، ارتبطت عقود الاستخراج مع الشركات الأجنبية باتفاقيات للتصدير، فبُني معمل ضخم في دمياط ـ كلف مليارات الدولارات ـ لتسييل الغاز وشحنه على متن الناقلات، إضافةً إلى بناء أنبوب الغاز إلى الأردن والكيان الصهيوني. المشكلة لا تقتصر على حجز المورد الثمين لفائدة الأسواق الخارجية من دون الالتفات إلى أولويات البلد وحاجاته المستقبلية (خلال سنوات الانتاج العالي، بين 2006 و2010، كانت مصر تصدر بين ثلث ونصف الغاز الذي تستخرجه)، بل إن الفضيحة الحقيقية كانت في الأسعار غير المنطقية التي بيع بها الغاز المصري طوال هذه السنوات.
بحسب تقرير لـ«المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» كانت أسعار التصدير التي جرى الاتفاق عليها مع إسرائيل والأردن وشركة «يونيون فينوسا» الإسبانية أقل بكثير من القيمة السوقية؛ يكفي للتدليل على ذلك أن إسرائيل كانت تدفع 75 سنتاً لكل مليون وحدة حرارية، فيما الأردن يدفع دولاراً واحداً، أما سوريا ولبنان، فكانا مستعدين لدفع 5.5 دولارات للكمية نفسها، من الانبوب نفسه ـ وهذا كان سعراً ممتازاً.
قدر تقرير «المبادرة» أن مصر خسرت، على هذا النحو، 3.8 مليارات دولار في بيع الغاز للأردن، و6 مليارات دولار في عقود «يونيون فينوسا»؛ أما إسرائيل، فكانت تستأثر بثلث صادرات الغاز المصري في تلك الفترة. بدلاً من أن يُستخدم هذا الغاز في الداخل المصري لتأمين مستقبل الكهرباء في البلد، أو لخفض كلفة الطاقة على الناس والدولة، ذهب على شكل «دعم» حكومي مصري لإسرائيل ولأوروبا (وتحديداً للشركات الوسيطة ورجال الأعمال الذين استفادوا من العمولات ومن فارق الأسعار).
يقول مسؤول رفيع سابق في شركة أجنبية تولت انتاج الغاز في مصر إنه شهد بنفسه كيف كانت الدولة المصرية تشتري الغاز الذي تستخرجه الشركة، ثمّ تبيعه للتصدير إلى إسرائيل بسعر يقلّ عن بدل الانتاج، أي إن الخسارة لم تكن «افتراضية» ونظرية فحسب، بل ومباشرةً أيضاً بالمعنى الحسابي والتجاري ـ كأن تبيع غازك مجاناً ثم تدفع فوق ثمنه. رجل الأعمال المصري الذي كان «واجهة» الصفقة، حسين سالم، خرج من البلد بعد سقوط حسني مبارك وما زال هارباً، وأثناء محاكمة وزير النفط السابق، سامح فهمي، رفض أن يُحمل وحده المسؤولية عن القرار، وأشار في قاعة المحكمة إلى رئيس الوزراء السابق، ذاكراً «اوامر قيادية» وقفت خلف الصفقة.

لماذا انقطعت الكهرباء

في عام 2007، سألت مسؤولاً اقتصادياً في السفارة المصرية بواشنطن عن الحكمة من الاتجاه للتصدير، وبناء معامل تسييل وأنابيب نقل، وعما إذا كان الانتاج المصري قادراً على تلبية كل هذه الطاقة التصديرية إضافةً إلى احتياجات البلد، فابتسم بثقة وأكد لي أن الاحتياطات الغازية «بحر»، وأنه لا ضير من بيع الغاز هنا وهناك، فهو سيكون متوافراً على الدوام.
هذه الطريقة في التفكير وفي النظر إلى الموارد القومية ساهمت في إيصال مصر إلى وضعها الحالي: في بداية العام الجاري أعلنت مجموعة «بي جي» للطاقة في بريطانيا عدم قدرتها على تلبية التزاماتها تجاه زبائنها بعد انقطاع التصدير من مصر. وبعد شهرين، في آذار، أطلقت شركة «فينوزا» الإسبانية دعوى تحكيم دولية ضد الحكومة المصرية إثر تعطل معمل التسييل بسبب وقف الامدادات. وفي هذه الأثناء، بدأت مشاكل الكهرباء في مصر بالتفاقم، ولا حل في الأفق.
حتى حقول الغاز البرية و«السهلة» تستلزم سنوات من العمل قبل بدء الانتاج، وأكثر الاحتياطات المصرية المعتبرة التي لم تستغل بعد هي في البحر المتوسط، وعلى أعماق كبيرة، مما يجعل استثمارها صعباً ومرتفع الكلفة. لهذه الأسباب تعتمد سياسة الطاقة عادةً على الاستثمار المستمر والتخطيط البعيد المدى. كان من المتوقع ومن غير المفاجئ أن ينخفض انتاج الغاز في مصر من دون مصادر جديدة، وبين أعوام 2009 و2013 ـ بحسب وكالة معلومات الطاقة الأميركية ـ كان الانتاج المصري ينخفض باطّراد، بمعدل ثلاثة في المئة سنوياً، وكانت هناك تقارير عديدة تشير بوضوح إلى أن مصر سوف تعاني عجزا في الطاقة من دون اكتشافات جديدة واستثمارات ضخمة (ومن بينها دراسة للمرصد المتوسطي للطاقة» في فرنسا نشرت عام 2011 وقالت بوضوح إن مصر تتجه، بمسارها الحالي، لأن تصير مستورداً للغاز).
في أوائل الألفية، عُقد عدد كبير من الصفقات لاستخراج الغاز المصري وتصديره، حتى إنه في تلك الفترة وصلت نسبة الاستثمار الأجنبي في قطاع الغاز إلى 40 بالمئة من اجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر (بحسب دراسة لمصرف «باريبا»). لم تتبع هذه الخطوات سياسة قومية لإدارة الطاقة الغازية: إسرائيل وبعض الشركات الأجنبية حققت أرباحاً ضخمة، رجال أعمال وسياسيون مصريون قبضوا عمولات، وترك الأمر على غاربه. اليوم تضطر مصر إلى إحراق النفط والمازوت لادارة مولدات الكهرباء، والدولة تعتمد على الاعانات الخليجية لتغطية فاتورة الطاقة.
المفارقة هي أن مصر قد تلجأ إلى إسرائيل، التي بدأت حقولها المتوسطية بالانتاج ولم تعد بحاجة إلى الغاز المصري. وتتفاوض الشركات المالكة لمعمل التسييل في دمياط لتشغيله باستعمال غاز إسرائيل الفائض عن حاجتها ـ وهذا يوفّر على إسرائيل بناء أنابيب تصدير إلى أوروبا أو معامل تسييل خاصة بها. بحسب الأرقام التي ذكرها الاعلام، فإن إسرائيل سوف تقبض من مصر أكثر من أربعة أمثال السعر الذي كان يدفعه الكيان الصهيوني مقابل الغاز المصري.