لعلّها مصادفة أن تلتقط وكالة «فرانس برس» صورةً لوالدة الصحافي الأميركي جيمس فولي، عقب ذبح ابنها على يد عنصر في تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، أمام صورة للمسيح في منزلها. ولعلَّها مصادفةٌ أخرى، أن تكون والدة الصحافي الأميركي ـ الإسرائيلي ستيفن سوتلوف ناجيةً من المحرقة النازية. غير أن ما يبدو حتمياً هو إعادة إحياء الخطاب اليميني الأميركي الذي وسم السياسة الخارجية الأميركية والأوروبية، خلال العقد الماضي، ضمن دعاية «الحرب على الإرهاب». واليوم، يجري استنهاض هذا الخطاب في إطار صياغة مسوغات ومبررات أخلاقية، كما جرت العادة، خلفيةً لحروب أميركا الاستعمارية التي تعتزم خوضها.
عاد سؤال «لماذا يكرهوننا؟» إلى الواجهة. خرجت الأسئلة ذات البعد «الحضاري» إلى الضوء من جديد، لتصبح المشكلة إسلامية ـ أميركية. فبعدما كانت «مشكلة» الدولة الإسلامية، مع السنة والشيعة والمسيحيين و(...) وصولاً إلى كلّ من هو مختلف، مستثنيةً أو مستبعدةً الغرب وأميركا من الصراع والقتال، عاد الخطاب الغربي إلى تساؤلاته «الثقافية» المعتادة ذات النبرة المعادية للإسلام. وعدنا إلى زمن يصبح فيه كافياً، على سبيل المثال، أن يكون قاتل امرأة في منطقة إدمنتون في لندن، قد «اعتنق الإسلام قبل عام»، ليتوقف البحث في دوافع جريمته، ولتتخذ منه وسائل الإعلام، كمجلة «ذا صان» البريطانية، غلافاً عنوانه «معتنق الإسلام يقطع رأس امرأة في حديقة».
غير أن المختلف في المرحلة الراهنة، يكمن في أن من كان قادراً سابقاً، على الوقوف في وجه العنصرية والسطحية والتنميط والاختزال بحق العرب والمسلمين، جعلته أحداث السنوات الثلاث الماضية، بقساوتها، يتبنى (لا إرادياً أحياناً) الخطاب الاستشراقي المعادي للإسلام والمسلمين، إذ إن انتشار التنظيمات المتطرّفة في بلادنا، جعل بعضنا يظنّ أننا قادرون على «ليّ ذراع» الغرب، عبر «إحراجه» في قضية الجهاديين الأجانب الذين قد يعودون يوماً ما إليه، في محاولة منا لجذب المعسكر الأميركي إلى «خندقنا». فهل وقعنا في فخّ العداء لأنفسنا؟

«لماذا ما زالوا يكرهوننا؟»

نشرت صحيفة «ذا واشنطن بوست» الأميركية مقالاً للكاتب الهندي ـ الأميركي فريد زكريا قبل أسبوع، بعنوان «لماذا ما زالوا يكرهوننا؟» في «نقد ذاتي» اختار زكريا أن يوجهه إلى مقال كتبه في منتصف تشرين الأول 2001، بعنوان: «لماذا يكرهوننا؟»، في محاكاة للسؤال الشهير الذي طرحه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش أمام جلسة للكونغرس في أيلول من العام نفسه. سؤال زكريا يأتي في سياق إحياء ثنائية «أميركا والإسلام»، في مرحلة تتطلب مؤثرات «ثقافية» من هذا النوع، لإعطاء المبررات الكافية للضربات الأميركية في العراق.
يقول زكريا إنه حينما شاهد فيديو إعدام الصحافيين الأميركيين، جيمس فولي وستيفين سوتلوف، «انتابته المشاعر ذاتها التي شعر بها عقب هجمات 11 أيلول 2001»، ولكن بعد ثلاثة عشر عاماً توصّل الكاتب إلى أن «الإرهاب الاسلامي» لا يقتصر على «القاعدة» فقط ولا هو سلوك معزول ناجم عن حفنة من العدميين، بل هو نتاج ثقافة أوسع متواطئة معه، أو على الأقل غير راغبة في مكافحة هذا الإرهاب. ثمّ يخلص إلى أن «المشكلة ليست في الإسلام، بل في العرب أنفسهم». ويدعّم هذا الاستنتاج، بكون إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية في العالم، لم يفتك بها الإرهاب طيلة العقد الماضي. ويتابع القول إنه حتى في الهند، حيث أعلن أيمن الظواهري قبل أيام فرعاً لتنظيم «القاعدة»، «سيفشل الإرهاب»، وذلك كله لأن المشكلة بحسب ذكريا في «العرب» لا في «الإسلام».
تلك الاختزالية المخيفة التي وسمت مقال زكريا، لا تساهم فقط في إعادة إحياء أسوأ النظريات الاستشراقية، واستنهاض الخطاب المعادي للاسلام والعرب، وإعادة تفعيل دعاية «المحافظين الجدد» التي طبعت السياسة الخارجية الأميركية خلال العقد الماضي، بل هي تنتج أيضاً خطاباً أميركياً لافتاً في دلالته لجمعه بين الديكتاتوريات في العالم العربي و«الإرهاب». فبالنسبة إلى الكاتب الأميركي إن العرب خاضعون لخيارين لا ثالث لهما: الديكتاتورية أو الجهاديين، وكلما كانت الانظمة قاسية، ازدادت المجموعات المعارضة لها (الدينية) عنفاً. وأعطى زكريا مثالاً على هذا الأمر، بحسب مقال «واشنطن بوست»، حين قال إن (الرئيس السوري) بشار الأسد يساعد فعلياً تنظيم «الدولة الاسلامية»، عبر شراء النفط والغاز منه، وعبر ضرب معارضيه مثل «الجيش الحر»ّ، حين كان الأخير يحارب داعش، ويتابع: الأسد يقول للناس أنا أو «داعش»، و«هناك الكثير من السوريين (الأقلية المسيحية، مثلاً) اختاروه هو».
ويشير زكريا إلى أن المفكّر الأميركي صامويل هانتنغتون، المنظّر «لصراع الحضارات»، كان على حقّ حينما قال إنه لا يهمّ نوع الحكم في الدول النامية، بل ما يهمّ هو درجة هذا الحكم، لكون غيابه أو ضعفه، يفكّك الدولة لمصلحة العصبيات. ما يعيد ترسيخ النظريات الاستشراقية القائلة إن «العربي» غير قادر على تمثيل نفسه، وإن على الغرب أن يخضعه للاحتلال كلما أمكن.



هل يمكننا، حقاً، أن نلوي ذراع الغرب؟

بعدما باتت الجماعات التكفيرية واقعاً في سوريا والعراق، وانتشرت ممارساتها الوحشية عبر وسائل الإعلام، حتى وصلنا إلى زمن أصبحت فيه «داعش» و«جبهة النصرة» الحديث اليومي للسوريين والعراقيين واللبنانيين، برز خطابٌ يتمحور حول «ليّ ذراع الغرب» بواسطة تلك الجماعات. ارتفعت أصوات في تلك الفترة، تقول للغرب ما معناه: «انتبه، لا تبالغ في دعم الثورة السورية. الإرهاب سيطاولك وسيهدد دولك ومجتمعاتك. فكر مرتين، وأعِد اصطفافك». منذ ذلك الحين، كان من يتابع ما تيسّر من آراء الناس في أوروبا وأميركا عبر التعليقات على مواقع الصحف الغربية على سبيل المثال، يرى كيف أن المزاج الغربي، وقع فجأةً في «حبّ» الرئيس بشار الأسد، كرهاً بتلك التنظيمات، وبدأ الرأي العام الغربي يعبّر عن غضبه من حكومات بلاده لدعمها المجموعات المسلّحة في سوريا، وتهيئة الأرضية بطريقة أو بأخرى لـ «الوحش الإرهابي». في وقت بدأت فيه الصحف الغربية تفرد عشرات التقارير والتحقيقات عن «الخطر الجهادي» الآتي من الشرق الأوسط، وعن «الجهاديين الأجانب الذين سيعودون إلى أوطانهم»..
ولكن فات كثيرين منا، أن «ابتزاز» أو «إحراج» الغرب بواسطة «الإرهاب»، يشبه أن نقدّم إليه السلاح الذي قتلنا به، كي يعيد قتلنا مجدداً، إذ لا داعي هنا إلى التذكير، بأن مصطلح «الإرهاب» بحدّ ذاته مبهم وضبابي ونسبي، ويستخدم وفق المصالح الأميركية والأطلسية، حصراً. فمثلما وضعت واشنطن والأمم المتحدة «داعش» و«جبهة النصرة» على لائحة الإرهاب، وضعت أيضاً حركات مقاومة كحركة «حماس»، وما سمّتها «الذراع العسكرية» لحزب الله ضمن هذه اللائحة.

الخطاب المعادي
للإسلام تفشّى حتى لدى من كان يرفض الدعاية الاستعمارية


مصطلح «الإرهاب» يستخدم وفق
المصالح الأميركية والأطلسية حصراً

إضافةً إلى أن الهبّة الدولية الأخيرة، استثارها مقطع الفيديو الدراماتيكي، لذبح الصحافي الأميركي جيمس فولي، وذلك بعد ثلاث سنوات تعرّض فيها سوريون لعمليات ذبح مشابهة، وأكلت أعضاؤهم أمام عدسات الكاميرا، من دون أن يمثّل ذلك أي إثارة للمجتمع الدولي. إذ لعلّ «رد الفعل» الدولي ذاك، كان بحاجة إلى ضحية بزيّ سجناء غوانتانامو، في مشهد مكتمل العناصر، حتى يعود «الصراع» إلى قواعده: «الإرهاب الإسلامي» في مواجهة أميركا.
ولعلّ مصطلح «الأمن القومي الأميركي» يوازي «الإرهاب» ضبابيةً واستنسابية. فالأمن القومي الذي كان مسوغاً لضربة عسكرية كانت وشيكة على مصالح الدولة السورية في أيلول 2013، بات اليوم هو المنطلق لضربة على مواقع داعش في العراق، من دون أن تشرح لنا واشنطن ماهية هذا الأمن القومي، الطيّع، في الحالتين.

هل وقعنا في فخ العداء لأنفسنا؟

حتى الأمس القريب، كان الانقسام في العالم العربي، على مستوى النخب والجماهير، واضحاً ـ إلى حد بعيد ـ لناحية الموقف من الدعاية الأميركية في قضية «الحرب على الإرهاب». والموقف من تلك الدعاية، نابع بطبيعة الحال من الموقف الجوهري من التبعية للغرب ومن سياساته في بلادنا.
على مستوى النخب، كانت بلادنا منقسمة بين نخب تابعة، منساقة خلف الغرب وسياساته تجاه المنطقة وشعوبها، ومتبنية لخطابي التفوق الغربي ورهاب الإسلام، ونخب وطنية رافضة لاحتقار الذات الذي يعممه الطرف الآخر، وقادرة على تمييز وظيفة الدعاية الأميركية ضد «الإرهاب» (والإسلام والعرب) ضمن المشروع الاستعماري الأميركي الجديد.
حتى الأمس القريب، كنا حينما نريد أن نكتب عن «الإرهاب»، نتعمد وضع المصطلح بين مزدوجين، لضبابية المفهوم وخبثه أحياناً. اليوم، نرى كتّاباً منتمين إلى النخب الوطنية وتلك القريبة من المقاومة ومن المحور المعادي للسياسة الأميركية، يتبنون بكل بساطة مصطلح «الإرهاب» وسياقاته، وذلك ربما لتداخل الأحداث الأخيرة، عازلين هذه السياقات عن الصراع السياسي مع الغرب ومراميه الاستعمارية في بلادنا. بات هؤلاء يستسهلون إطلاق تلك النعوت يميناً ويساراً، في تبنٍّ، لعله غير مقصود، لأدبيات الدعاية الأميركية، المستخدمة في حروبها الاستعمارية طيلة العقد الماضي. حتى الأمس القريب، كانت النخب الواعية، إن جاز التعبير، غير الكارهة لذاتها، تقف في وجه الغرب مهاجمةً التنميط الذي يتعاطى بواسطته الاعلام واليمين الغربي، مع العرب عموماً، بواسطة الترويج للإسلاموفوبيا.
ولكن، منذ أكثر من سنتين، حين باتت المواجهة مع التنظيمات الإسلامية الراديكالية، محض مذهبية، وفي عقر دارنا، في سوريا والعراق ولبنان، تحديداً، بدأت نظرة جديدة لهذا الصراع تتبلور، وإن بطريقة لا إرداية. فجولةٌ سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي كافية لنرى أن الخطاب المعادي للاسلام، وبالتالي الكاره للذات، بدأ يتفشى بصورة كبيرة، حتى في الأوساط الرافضة للدعاية الأميركية الاستعمارية.
واليوم، في زمن «التحالف الدولي ضد الدولة الإسلامية»، قد يرى البعض أن المفاضلة بين «داعش» وأميركا واجبة، متجاهلاً أن الحروب الاستعمارية بحاجة دوماً إلى أداة تثب عبرها إلى هدفها، وأن العداء لتلك الأداة لا يعني أن نتمسّك بالمشروع الأميركي وبسياقاته.
وبالعودة إلى مقال فريد زكريا، يمكن القول إن الحرب هذه المرة، إذا ما انطلقنا من محتوى المقال المذكور، تأتي بالتزامن مع «قناعة» غربية بأن المشكلة في العرب جميعاً، ما يجعلنا جميعاً في مرمى النار الأميركية، ويجعل الخطاب الكاره للإسلام، إن كان ساذجاً أو متسرعاً، خطابا كارها لذات مطلقه قبل أيٍّ كان.




حرب حتى «النصر»

دعا نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني، إلى اتخاذ خطوة جديدة على المستوى العالمي والعودة إلى الهجوم في «الحرب على الإرهاب». وأعرب مهندس الغزو الأميركي للعراق، أمس، خلال مناقشةٍ لأحداث 11 أيلول 2001 في معهد «أميركان إنتربرايز»، عن أسفه لما عدّه موقفاً دفاعياً للرئيس الأميركي باراك أوباما في تعاطيه مع تهديدات تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا، مشيراً إلى أنه في وقتٍ كان فيه الرئيس يعلن ضرب نواة «القاعدة»، كانت موجة جديدة من الجهاديين تتنامى في العراق وسوريا واليمن تحت أسماء متنوعة».
وعلى غرار تقديمه المشورة للرئيس السابق جورج بوش لثماني سنوات، قدّم تشيني النصح العلني لأوباما، قائلاً إن «على رئيسنا أن يفهم أننا في حالة حرب، وعلينا أن نقوم بكل ما نستطيع مهما استلزم ذلك من وقت لكي ننتصر». وأضاف متوجهاً إلى الرئيس بالقول: «اضرب معاقله (داعش) ومراكز قيادته وخطوط اتصالاته في أي مكان»، داعياً إلى زيادة عدد الجنود الأميركيين الموجودين حالياً في العراق.
(الأخبار)