رغم المليارات التي صبّتها الرياض على القاهرة، فإن لمصر الجديدة رؤية استراتيجية معقّدة، لا تحيد عنها؛ تناور وتداور وتقبّل الجبين الملكي، ولكنها، في النهاية، تلتزم بالمصالح القومية المصرية. من هنا، كان موقف الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، واضحاً في رده على العرض الذي قدّمه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لانضمام مصر إلى حلف «الحرب» على «داعش»: «الحرب على الإرهاب يجب أن تكون شاملة، ولا تقتصر على تنظيم بعينه».
يقصد السيسي، بالطبع، محاربة التنظيمات الإرهابية العاملة في مصر بالفعل، بالتنسيق أو بالتواطؤ مع الإخوان المسلمين الذين لا تزال الولايات المتحدة تعتبرهم «قوة شرعية»؛ لكن السيسي يتحدث، أيضاً، عن سوريا والعراق، حيث يحفل البلدان بتنظيمات إرهابية تحظى بالدعم الأميركي ــــ السعودي ــــ القطري ــــ التركي.
لن تكون القاهرة حليفاً للسعودية في مقاربة المعايير المزدوجة لمحاربة «داعش» في العراق، وتشجيع أخواتها في سوريا، كما أن الجيش المصري لن يغادر حدود بلاده للمشاركة في أي عمليات في إطار الحلف الأميركي الذي أصبح واضحاً أنه يستهدف إعادة ترتيب صفوف القوى الإرهابية، وضبطها، لتنفيذ هدفيّ إعادة هيكلة العراق تحت المظلة الأميركية، ومواصلة السعي لاستنزاف الجيش السوري.
في ظل الهجوم الديماغوجي على القاهرة التي رفضت، بإلحاح، خطة حماس لإقامة دويلة منفصلة في غزة تحت يافطة «المقاومة»، لم ينتبه الكثيرون إلى أن أول اتصال تضامني ضد «داعش» وحلفائها، تلقاه رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، من السيسي بالذات، رئيس أكبر دولة عربية سنية. في الأخير، الاستراتيجية المصرية تقوم على استئصال الإسلام السياسي كلياً، من الإخوان إلى السلفيين الجهاديين؛ يضع ذلك المصريين، موضوعياً، في تعارض مع استراتيجيات الولايات المتحدة والسعودية وقطر وتركيا، ويجعلهم أقرب، فعلياً، إلى سوريا.
ما قالته مصر بين الأسطر، أعلنته إيران على الملأ في فضيحة مدوّية للعم سام؛ أعلنت طهران أن الأميركيين بذلوا جهوداً حثيثة من أجل ضم إيران إلى الحلف الأميركي ضد «داعش» العراق؛ أوضح الإيرانيون أنه لا يمكنهم التعاون مع الأميركيين بسبب «ازدواجية المعايير» في محاربة الإرهاب، وأنهم لا يستطيعون «التغاضي عن سيل المساعدات العسكرية من واشنطن وحلفائها للإرهاب والتطرف في سوريا».
العرض الأميركي المقدم لإيران يستهدف تحقيق ثلاثة أهداف معاً: أولاً، الإفادة الميدانية الفعلية من المساعدات التي تقدمها الحكومة الإيرانية، بالفعل، إلى العراقيين، لمواجهة «داعش»، والشروع في التفاوض الثنائي حول إعادة تركيب النظام السياسي العراقي؛ ثانياً، فصل عرى التحالف الإيراني ــــ السوري من خلال تورّط إيران في عملية تتضمن استهداف سوريا؛ وثالثاً، دفع إيران في اتجاه التباعد عن روسيا التي يستهدفها الأميركيون بالحصار والعزل والعدوان (في أوكرانيا).
الردّ الإيراني على الأميركيين كان متعدد الأوجه؛ فمن التأكيد على مواصلة دعم العراقيين، إلى رفض أي حرب ضد الإرهابيين لا تشملهم جميعاً في سوريا، إلى توثيق التعاون السياسي والدفاعي والاقتصادي مع الاتحاد الروسي، بما يؤسس لتحالف دولي ــــ اقليمي بين القوتين الصاعدتين من شأنه خفض أو حتى إلغاء مستوى الضرر الناجم عن الحصار الأميركي.
من موقع آخر مضادّ، ترفض تركيا مشاركة الأميركيين ضد «داعش» العراق؛ فهذا التنظيم التكفيري الدموي هو الحليف الرئيس لأنقرة، والحامل الرئيس لطموحاتها الإقليمية المستندة إلى التقسيم الطائفي لسوريا والعراق؛ لم يعد سراً أن تركيا هي التي قدّمت وتقدّم المعسكر الخلفي لـ «داعش». إلا أن الأمر يتجاوز العمليات التركية التقليدية في دعم الإرهابيين في سوريا، طوال السنوات الثلاث والنصف الفائتة. فالمشروع الداعشي يتوافق، كلياً، مع مطامع حزب أردوغان الذي يرى جذوره في السلاجقة ــــ الذين كانوا أول قوة كبيرة تستثير السنية السياسية وتحشّد الجماهير الطائفية لدعم الدولة السلجوقية ــــ وفي العثمانيين الذين حوّلوا العراق إلى ساحة صدام مذهبي مرير في نزاعهم مع الدولة الصفوية في إيران. هكذا، وبغض النظر عن الجرائم التي ترتكبها «داعش»، فإن مشروعها التقسيمي في سوريا والعراق، بهدف إقامة كيان أو كيانات سنية صافية، ينسجم مع استراتيجية التوسع التركي في المشرق؛ فهذه الكيانات، ستكون ملزوزة إلى الارتباط الوثيق بتركيا التي يمكنها، لاحقاً، ضبط الأداء الحكومي في الكيانات المنفصلة، بما ينسجم مع المقبول دولياً.
لا نستبعد، بل ربما نرى أن الهجوم الداعشي على أربيل كان بتشجيع تركي؛ كذلك الأمر، بالنسبة لخطة «داعش» لاستهداف السعودية، حيث يلقى التنظيم تأييداً كبيراً وحواضن اجتماعية ثقافية تهدد المملكة؛ تركيا تريد تقويض السعودية ــــ وتحجيم مصر ـــ ما يترك لها موقع القيادة السنية في المنطقة كلها.
السؤال الآن، عما إذا كان في السعودية، عقلاء يستدركون الانتحار المموّل ذاتياً؟
وسط كل ذلك، يحقق الجيش السوري ضربات موجعة لتنظيم «داعش» و«النصرة» وسواهما من التنظيمات الإرهابية، في ما يبدو أنه سباق مع الأميركيين لتحقيق انجازات على الأرض، تكشف الزيف الأميركي، وتضطر واشنطن والرياض لإعادة النظر في مشروع بناء قوة إرهابية جديدة للعمل ضد سوريا. ولا يمكننا إلا أن نرى الدعم الروسي والإيراني وراء الاندفاعة الهجومية الجديدة للجيش السوري.