يكاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يفقد صوابه. تعكس نبرته عمق المأزق الذي وقعت فيه بلاده. كيف لا، وقد افتتح عهده الرئاسي بمعضلات، أصغرها «المواءمة» بين عضويته في حلف «شمال الأطلسي» والتورّط في دعم جماعات تكفيرية، إحداها تحشد واشنطن حلفاءها في المنطقة، لتحاربها.
لا يُحسد الرئيس التركي على موقفه. فبلاده تقف في منتصف طريقٍ، تحدّه من جهة قاعدة انجرليك الأميركية على أراضيه، ومن الجهة الأخرى «الدولة الإسلامية»، المستفيدة منه اقتصادياً بواسطة نهب النفط السوري والعراقي، و«المتعاطفة» معه سياسياً ودينياً.
هذه الثنائيات التي يحفل بها المشهد التركي اليوم، ليست طارئة عليه. إذ يمكن القول إن الجمهورية التركية، حاولت، طوال العقد الفائت، الجمع بين «قلبٍ» مع الشرق الأوسط، و«عقل» مع الغرب.
وعلى الرغم من فشل مشاريعها في الشرق الأوسط، لن تتمكن أنقرة، في هذا الوقت تحديداً، من نفض يديها من الأوحال الاقليمية التي سبّبت هي جزءاً كبيراً منها. لن تستطيع أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، مستديرةً نحو الغرب وفق النهج الأتاتوركي، متجاهلةً الشرق الأوسط، الذي بات دورها محورياً في أزماته.ولعلّ ما جرى في بلاد الرافدين، مثّل أوضح صورةً عن المأزق التركي. فما أصرّت على وصفه «ثورة على النهج الطائفي» في العراق، بات بين ليلةٍ وضحاها، «إرهاباً»، تهافتت واشنطن وحلفاؤها لمكافحته. ما العمل الآن؟
واستطراداً، إن هذا السؤال، الذي يطبع الحراك الدبلوماسي والأمني في تركيا اليوم، لم يخطر في بال دول الخليج على سبيل المثال. فمن يراجع تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عقب لقائه بنظيره الأميركي جون كيري، قبل أسبوع، يعي الفرق بين تركيا ودول الخليج. جاويش أوغلو تمسّك حينها بموقف بلاده بوصف ما جرى في العراق «نتيجة للتهميش الطائفي»، على الرغم من قبول تركيا بالمشاركة غير العسكرية في التحالف. في وقتٍ هرعت فيه دول الخليج إلى تلبية نداء «المستعمر» على الفور، بعدما كانت قد أعلنت مع بداية اجتياح «داعش» لشمال العراق، أن ما يجري في العراق «ثورة على استبداد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي»، ومن يراجع بياني الرياض والدوحة في حزيران الماضي، والمقالات في الصحف الخليجية حول العراق، يكتشف الفرق بين الدول الذليلة وبين الدول التي تحتفظ بمنسوبٍ من ماء الوجه.
تريد أنقرة المضي في مواقفها حتى الآخر، في وقتٍ تغيرت فيه الأولويات الغربية.

انطلاقاً من هذه الإشكالية، تعلو نبرة المسؤولين الأتراك الذين يريدون إقناع العالم بأن أولوياتهم لن تتغير. ويأتي كلام وزير الخارجية التركي، أول من أمس، في هذا السياق عن أن «المنطقة لن تشهد استقراراً، ما دام النظام الملطخة يداه بالدماء على رأس السلطة في سوريا».
ويوم أمس، ردّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على إعلان وزارة الخارجية السورية حول «الدور التخريبي» لحكومة «العدالة والتنمية» عبر «احتضان الإرهابيين وتدريبهم وتسليحهم وتسهيل مرورهم إلى سوريا، وشرائها النفط السوري الذي تسرقه عصابات داعش»، قائلاً إن إظهار تركيا كما لو أنها دولة تدعم الإرهاب وتغضّ الطرف عن الممارسات الإرهابية، «ما هو إلا وقاحة وسفاهة»، مشيراً إلى أن بعض الجهات تتهم تركيا باستيراد النفط من المناطق التي تقع تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية»، تارةً، وتقديم السلاح والخدمات الطبية طوراً. وأضاف، في كلمة ألقاها في اجتماع الجمعية العامة لاتحاد الحرفيين والصناع: «نحن أكدنا ونؤكّد أن هذا غير ممكن على الإطلاق»، مشدداً على أن تركيا «بلد يناهض الإرهاب بكل أنواعه والتنظيمات الإرهابية بأشكالها كافة»، وأنها «لم ولن تقبل أبداً في أي وقت من الأوقات مصطلح الإرهاب الإسلامي».
كذلك، تطرّق أردوغان إلى الرهائن الأتراك لدى التنظيم في الموصل، قائلاً إن المواطنين الـ49 أهم من كل شيء. وأعاد التلميح إلى أن موقفه من ضرب «داعش»، عائد إلى الخوف على الرهائن، قائلاً: «ينبغي لنا الحديث والتحرك مع مراعاة حساسية وضع المُحتجزين»، متمنياً أن يتحلى إعلام هذه البلاد وأحزابها السياسية بالحساسية نفسها.
وأشار إلى صورةٍ نشرتها صحيفة غربية أمس، تجمعه برئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو عند خروجهما من مسجد الخاج بيرم، معلقةً عليها أن تنظيماً إرهابيّاً ينشط في المنطقة التي يوجد فيها المسجد لاستقطاب إرهابيين، مضيفاً: «ما فعلته الصحيفة إساءة ونذالة وخسة، وهذا أخف وصف».
بالتزامن، انعقد اجتماع أمني في قصر شنقايا الرئاسي، أمس، برئاسة أردوغان، «لمناقشة التطورات الإقليمية الأخيرة، إضافةً إلى مواضيع أمنية متعلّقة بتركيا».
قد تكون أنقرة وجدت أن الحلّ الأفضل هو في حصد ما تيسّر من مكاسب. وفيما يستبعد البعض أن تسمح تركيا للولايات المتحدة باستخدام قواعدها لشنّ ضربات جوية على «داعش»، قد يقتصر دور أنقرة في الخطط الأميركية على وصفها «ممراً لنقل مساعدات لمعارضين آخرين للرئيس الأسد تعوّل عليهم الولايات المتحدة للتصدّي للدولة الإسلامية». وبذلك، يكون مطلب أنقرة من واشنطن بتقديم مساعدات أكبر للمعارضة السورية «المعتدلة»، قد تحقق، ما يضمن بالنسبة إليها المضيّ في مشروعها إسقاط الأسد، بالتزامن مع ضرب «داعش».
حينها، لا يعود غريباً ما قاله دبلوماسي غربيّ عن أن واشنطن كانت «حكيمة» في تركيزها على هذا الدور في المفاوضات مع تركيا، لكون دعم المعارضة السورية «مهمّاً لإضفاء الشرعية على العمليات بالنسبة إلى أنقرة».