لا أستطيع النوم مطلقاً! حتّى حين أطبق جفني تبقى ذاكرتي مفتوحة كشباك بيت قديم في عكا يطل على البحر. يداي اللتان تحيطان بك يا حبيبي أفلتت مني، وها هي - حين تلتصق الرموش الملطخة بالكحل معلنة العتمة وساعة النوم - فإنها تبدأ... تبدأ بماذا؟ تبدأ بفتح الشباك المطل هناك على البحر!
يدخل النور من بين المشربيات، قليل هو بخلاف الهواء. أختنق، فذاكرتي التي أحاول النجاة منها تغرقني بسيل طويل من الصور. أحاول النوم، لكنني أصعد من طبقة إلى أخرى وأهوي من السطح على الأرض، متنقلةً بين مجد الكروم وحيفا وعكا وبير زيت والحاجز العسكري اللعين، وصيدا وبيروت. أبدو كأنما ما زلت هناك، بينما أنا هنا. يفصلني الشريط الشائك الذي يقف أبي عنده كل سبت. أبكي وأنا أتذكر الصورة التي أرسلها إليّ عبر «واتساب»، وهو ينظر من خلف الشريط الشائك الفاصل بين الجليل الأعلى المحتل وجنوب لبنان.
في الحلم، بينما أتنقل بين طبقة وأخرى، أتذكر صديقتي أماني من "دبوريه". أفكر ماذا سأهديها بمناسبة افتتاحها لمكتبها الجديد في الناصرة؟ هي تحب حلق الأذنين. في بيروت محل اسمه «أنكل سام» يبيع حلياً مزخرفة وجميلة، سأهديها زوجَي حلق محفورة عليه كلمتان: «بيروت وأماني». سيظن البائع أن اسمي أماني وأني أحب بيروت، وبالتأكيد سأشرح له «صديقتي هناك في الناصرة اسمها أماني وأنا اسمي بيروت»، وسيستغرب ككل الناس هُنا «أهلك شكلن بحبوا بيروت كتير، إنتِ من هون؟».
أتذكر الحلم الذي راودني ليلاً، بينما تسير السيارة سريعاً على الأوتوستراد الواصل بين صيدا وبيروت. أبوح لنفسي «... أخت إسرائيل عرص! يعني لو ما كانت موجودة، كنت وينتا بدي بزور أماني... إنو شو يعني ساعة ونص بالطريق؟ إنو كنت برجع ع البيت بعد الشغل باكل مسخن من إيدين إمي، وبعدين منكزدر عالغربي (الكورنيش) وبنتحدث».
أصل أخيراً إلى مكان عملي. أبدأ بتجميع الأخبار الفلسطينية. لحظة... لحظة! شو؟ أقرأ الخبر الآتي: جمعية «زوخروت» (ذاكرات) الإسرائيلية، تحضر لعقد المؤتمر الدولي الثالث في شهر آذار/ مارس المقبل. تتناول فيه موضوع «تحقيق عودة اللاجئين الفلسطينيين». أمّا مكان انعقاد المؤتمر فهو متحف «أرض إسرائيل» في تل أبيب. ثم أقرأ الجملة الآتية: «أثار المؤتمر ردود أفعال ساخطة من غالبية المجتمع الإسرائيلي، ومن جمعيّات اليمين على وجه الخصوص». حقاً؟ اليمين؟ لو أن هؤلاء كانوا حقاً «يساريين» لتركوا بلادي وعادوا من حيث أتوا، أقول بيني وبين ذاتي.
أنقر الكلمة المفتاحية «زخوروت» على محرك البحث الإلكتروني «غوغل». أغوص في البحث عميقاً «أبحبش» بين تبويبات موقع الجمعية الإلكتروني «النكبة. خريطة النكبة. شهادات. كتيبات. عودة اللاجئين». أنقر أخيراً على شهادات، ثم شهادات إسرائيليين. استقر عند شهادة الجندي في عصابة «البلماخ»، يرحميئل كهنوفيتش. أتخيله أمامي وهو يحكي عن مجزة اللدّ. يرد بـ«نعم» على سؤال المحاور بالعبرية «هل اشتركت في عملية مطَطي (المكنسة)؟». يتابع وهو يروي قصته. أقرأ أجوبته بالعبرية. يهيأ لي أنني لا أقرأها فقط بل أسمعها. فحين أقرأ حرف الراء، أتخيله يلفظه "غ" على طريقة اليهود، كونهم يلثغون عمداً بهذا الحرف. أشعر برغبة عارمة في البكاء. الراء/ الغين تحرق عيناي.
«كنت ضابط مدفعية في البلماخ، وشاركت في عملية (المكنسة)... أي كانت وظيفتنا طرد كل القرى وتكنيسها. سأشرح لكَ: الناس هربوا بالقوارب عبر بحيرة طبريا، أطلقنا عليهم النار ومن لم يمت نجا هارباً ليعود لاحقاً، لكنهم لم يتمكنوا من العودة. كانت العملية منظمة. يغيئال ألون وبالاتفاق مع بن غوريون، أعطانا أمراً بتنظيف القرى الفلسطينية كافةً. أطلقنا النار على القوارب، ماتوا، سقطت جثثهم في البحيرة». ثم يقول «دخلنا "بلد الشيخ" قرب ياجور (شمال حيفا)... لا أستطيع المتابعة، كان ذلك فتّاكاً. ألون قال لنا خذوا البلطات واذهبوا إلى هناك كي ينصرف العرب ولا يتبقى لهم أثر. أمرنا بعدم إطلاق الرصاص حتّى لا يلجأ العرب إلى الشرطة البريطانية. حطمنا الأبواب في بلد الشيخ، ورمينا قنبلة في الداخل... كفى! لم يتبقّ أي شيء! بعدها أكلنا وشربنا واتجهنا إلى مركز البلاد، إلى اللّد».
يستوقفني اسم المدينة التي زرتها ثلاث مرات على الأكثر، للمشاركة في نشاطات سياسية ضد مصادرة الأراضي وهدم البيوت. أتذكر تلك الرحلة الطويلة في الحافلة مع الرفاق، من صفد شمالاً إلى اللدّ وسط فلسطين المحتلة. نهرنا السائق «بلا إزعاج يا شباب». كنّا ننشد موطني. أتساءل إن كنت أستطيع متابعة قراءة شهادة كهنوفيتش. لكني أعصر قلبي وأتابع: «هل تعرف سلاح البيات (Piat)؟ إنه سلاح فتّاك جداً. لقد شاركت في عملية (داني). أعترف أنا من أطلق النار من البيات على المسجد... كانوا في الداخل. خرقت القذيفة الجدار بعدما أحدثت ثقباً، ثم تفجرت في الداخل والتصقوا جميعاً بالجدران! كل من وجدناه في اللد ذبحناه... نساء، حتى الحوامل منهن، وأطفال وشيوخ. بعد ذلك دفنهم المتطوعون في باطن الأرض».
أنتقل إلى شهادة الجندي في عصابة «الهاغاناه»، دوف يرما. أقرأ الآتي :«في الثامن من تموز/ يوليو، دعيتُ الى مقرّ القيادة وتلقيتُ أمراً باحتلال قرية "كويكات" في نفس الليلة. وهي قرية مسلمة كبيرة، تقع على تلة وتبعد 10 كيلومترات عن "الكابري". استناداً الى معلومات الاستخبارات الإسرائيلية، فإن مئة من سكان القرية كان لديهم بنادق، إذ طوّروا عند قدومنا، منظومة دفاعية، وكان من المرجّح أن تتجه قوات (القائد العربي فوزي) القاوقجي الى القرية للمساندة، في حال الهجوم عليها. قام اللواء بتزويدي بمصفحتين مع مدفعين، مدفع هاون 3 إنش، وعدد قليل من القذائف و(بطاريات نابليونية) للضربات التمهيدية، والتي سيتم نقلها لبضع ساعات من موقعها الثابت في رأس الناقورة. مع حلول الليل، خرجنا من مستوطنة "ريغبا" سيراً على الأقدام، وعند وصولنا إلى مشارف القرية أطلقت علينا نار قوية، لكنها توقفت بعد إطلاقنا قنابل من مدفع الهاون وبعض القنابل اليدوية. وفي عمق القرية، بدأت رشاشات المصفحات تفرقع. بعدها قمنا بمسح القرية من الجهة الشرقية ولم نجد أثراً لأي إنسان!!». يتابع: «رأيتُ بقايا طعام وفناجين قهوة ممتلئة عند تفقدنا البيوت، كان هذا في شهر رمضان، وفهمت حينها أن هجومنا على القرية كان مفاجئاً جداً».

■ ■ ■


لا أستطيع النوم. هذا ليس ما يدعى علمياً بـ«الأرق»، إنه جانب آخر له، قد يكون ذلك مرضاً ألمّ بي عندما قررت الخروج من فلسطين، وطني الذي لا يخرج مني.

*البلماخ (اختصار لعبارة «فلوغوت ماحتس» بالعبرية أي سرايا الصاعقة)، وهي القوة المتحركة الضاربة التابعة لـعصابة «الهاغاناه»، الجيش غير الرسمي للمستوطنات الإسرائيلية إبان الانتداب البريطاني على فلسطين. تأسست في 15 أيار/ مايو 1941، وكبرت حتى نكبة 1948. من أشهر قادتها: إسحق ساديه، يغال ألون، موشيه دايان وإسحق رابين.