مشاريع التّسويات السوريّة في طريقها إلى أدراج لا يُتوقّع لها أن تُفتح على المدى المنظور، فيما تعكفُ مختلفُ الأطراف على استكمال استعداداتها العسكريّة قبل العودة إلى الميدان (الذي لم تغادره أصلاً). معظم المعطيات (العسكريّة منها والسياسيّة) تشير إلى أنّ الحديث عن أبوابٍ فتحتها الهدنة الهشّة في المسار السياسي صار أقرب من أي وقت مضى إلى الخروج من حيّز التداول. ووفقاً للمعلومات الواردة من الشّمال، تبدو محافظة حلب «التربة الأصلح» لإعلان النعي الرسمي لـ«اتفاق وقف الأعمال القتاليّة» قبل أن يكمل شهره الثّاني (دخل التطبيق في نهاية شباط الماضي). لا يرتبط الأمر بالمعارك المتفرّقة الدائرة في الوقت الرّاهن، بقدر ما يرتبط بالتّحشيدات الضّخمة التي تواصل التّدفق إلى معظم الجبهات الحلبيّة لرفد صفوف المعسكرات المتحاربة بالعديد والعتاد. وفيما يواصل الجيش السوري وحلفاؤه التّلويح بشنّ معركة كبرى وسط تكتّم على التفاصيل والمواقيت، تستمر «جبهة النصرة» وحلفاؤها بإعادة «رصّ الصفوف»، بعد أن شهدت كواليس المجموعات اتفاقاً غيرَ معلن «على توزع الجبهات وتقاسم المسؤوليّات»، وفق تأكيدات مصدر كبير في «النّصرة» لـ«الأخبار». وكانت معسكرات المجموعات في خلال الأسبوعين الأخيرين مسرحاً لحركة تنقّلات غير اعتياديّة، أفضَت إلى مغادرة مئات المقاتلين جبهتي ريف حلب الغربي والجنوبي وحلول آخرينَ محلّهم. ومن المرجّح أن المغادرين في طريقهم للالتحاق بصفوف «المجموعات المعتدلة» التي تسعى إلى توسيع نطاق العمليّات ضدّ تنظيم «الدولة الإسلاميّة» ليأخذ شكل «معارك كبرى» في ريف حلب الشمالي، وعبرَه نحو الريف الشرقي. اللّافت أن عملية إعادة توزيع المقاتلين «المعارضين» على الجبهات لا تقيمُ اعتباراً لتوجّهاتهم «الأيديولوجيّة» بقدر ما تلحظُ طبيعة «الاختصاصات العسكريّة». وتؤكّد معلوماتٌ متقاطعة حصلت عليها «الأخبار» أنّ «معظم المقاتلين الذين سُحبوا من ريف حلب الغربي هم أصحاب خبرة في عمليّات الهجوم والاقتحام».
الحلقي: الجيش مستعد لتحرير حلب بمساعدة الطائرات الروسية
فيما حلّ محلّهم آخرون «تلقّوا تدريباتٍ خاصّة على المهمات العسكريّة الدفاعيّة، واستخدام المضادّات المتطوّرة». وتُكمّل هذه المعطيات معلومات عن «تسلّم الفصائل العاملة في ريف حلب الغربي دفعات أسلحة جديدة من بينها أصنافٌ تتسلّمها للمرّة الأولى»، وفقاً لمعلومات «الأخبار». ويوحي المشهد بأنّ الخطط العسكريّة «المُعارِضة» للمرحلة المقبلة تقوم على تثبيت السّيطرة غرب حلب وجنوبها. مع عدم إغفال السّعي إلى شنّ هجمات جديدة سعياً إلى كسب مزيد من النقاط الصالحة لتحويلها إلى «نقاط دفاع متقدّمة»، في مقابل العمل على قضم مزيد من الأراضي في الريف الشّمالي على حساب «داعش». ومن شأن التوسّع شمالاً أن يضمن لـ«المعارضة المسلّحة» وداعميها أهدافاً عدّة، على رأسها «تأمين الشّريط الحدودي التركي»، واستغلال الأمر تالياً لمهاجمة معاقل «داعش» في ريف حلب الشرقي (الباب ومنبج). ولا يبدو ورود الأخيرة (منبج) في تصريحات تركيّة جديدة بشأن «المنطقة الآمنة» أمراً اعتباطيّاً، على الرّغم من كل الإحباطات السابقة التي مُنيت بها رهانات أنقرة في هذا الإطار. وكان وزير الخارجية التركيّة مولود جاويش أوغلو، قد أشار إلى «ضرورة تطهير جيب منبج الممتد على مسافة 98 كيلومتراً من الحدود الجنوبيّة وتحويله إلى منطقة آمنة للسّوريين». اللافت أن كلام جاويش أوغلو جاء في سياق الحديث عن «خطّة بديلة» في سوريا، تحت عنوان استغلال نتائج الهدنة والعمل على محاربة «داعش». وقال المسؤول التركي إنّه «ما دام العمل جارياً على حلّ الصراعات غرب سوريا (في إشارة إلى الهدنة) سيُحوَّل الجيش الحر إلى الجانب الآخر لمواجهة داعش»، مؤكّداً استمرار أنقرة في «دعم الفصائل برّاً وجوّاً عبر حدودنا». وتأتي هذه التصريحات في سياق مساعٍ حثيثة من مختلف الأطراف المتقاتلة إلى توفير «غطاء سياسي» مناسب يضمن توجيه المعارك وفق مصالحه (وكلٌّ على حدة). ثوب «محاربة الإرهاب» يبدو مناسباً للجميع، فتحتَ شعاره «بشّر» العاهل السّعودي سلمان بن عبد العزيز بـ«إنشاء قوّة عربية مشتركة». ويبدو جليّاً أنّ لزيارتَي ابن عبد العزيز لمصر وتركيا «رصيداً مأمولاً» في الملف السّوري على وجه الخصوص. بدورها، تسعى أنقرة إلى لعب دور محوري في ربط «الخطط الإقليميّة» بنظيرتها الدوليّة الساعية إلى «مكافحة الإرهاب». وتبدو اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي التي تحتضنها إسطنبول فرصةً مواتيةً في هذا السياق، ولا سيّما مع تأكيد المنظمة أنّ الاجتماعات ستبحث «رؤية استراتيجيّة تتضمّن أولويّات محدّدة» على رأسها «السلم والأمن، ومكافحة الإرهاب». وتحت الشعار عينه أجرى وفدٌ عسكريٌّ أميركي «سلسلة اجتماعات مع قادة فصائل معتدلة داخل الأراضي التركيّة وعلى مقربة من الشريط الحدودي»، حسب ما أكّده «قائد» ميداني معارض لـ«الأخبار». وتلقّت «الفصائل» وعوداً بمزيد من الدعم، وبـ«إشراف أميركي تركي مشترك رفيع المستوى». وتحت شعار «مكافحة الإرهاب» أيضاً وتبدو معركة «جيب منبج» أشبه باختبار تخضع له الفصائل، تمهيداً لتحوّلها إلى «عماد أساسي لتحرير الرقة بغطاء من قوّات التّحالف»، وفقاً لما تبلّغه «قادة الفصائل». ومن شأن خطط «تحرير» منبج حال دخولها حيّز التطبيق أن تقطع طريق الريف الشرقي لحلب على الجيش السوري وحلفائه بعد أن وضعوا أقدامهم عليه في وقت سابق. لكن «تبدّل الأولويّات المرحلية أدّى إلى تحويل الثقل السوري نحو ريف حمص، والتركيز على تطهير تدمر»، حسب شرح مصدر عسكري سوري لـ«الأخبار». يربط المصدر بين تأخّر فتح العمليات ضد «داعش» في الريف الشرقي لحلب، و«ضرورات الميدان التي تقتضي إنهاء وجود الدواعش في العمق السوري أوّلاً، قبل التفرّغ لمحاربتهم في الأطراف». كذلك، رأى المصدر أنّ «مسارعة بقية المجموعات الإرهابيّة إلى تحريك الجبهات في حلب جاءت بسبب يقين مشغّليهم بأنّ الجيش في طريقه إلى دك معاقل داعش تباعاً، في حلب والرقّة ودير الزّور». وهو سبب كافٍ للبدء «في تطبيق خطط تطهير حلب من كل الإرهابيين، يجب أن نحمي ظهورنا قبل الانطلاق شرقاً، وقد ثبت أنّ أعداءنا لا يحترمون هدنةً ولا ميثاقاً»، يقول المصدر، مجدِّداً عزم «الجيش وحلفائه على مواصلة محاربة الإرهاب بجديّة مطلقة، بعكس الآخرين». المصدر تحفّظ عن التطرّق إلى «معركة حلب»، مكتفياً بالقول: «كلّ شيء جاهز، والقرار السياسي بات وشيكاً». وجاء بارزاً في هذا السّياق ما نُقل أمس عن رئيس الوزراء السوري وائل الحلقي، حول «استعداد الجيش السوري لتحرير حلب بمساعدة الطيران الحربي الروسي». الحلقي أكّد خلال لقائه وفداً من مجلس النواب الروسي أنّ «إنجاز العملية في حلب سيفتح الطريق أمام التحرك لاحقاً نحو دير الزور». لكن ماذا عن اجتماعات جنيف؟ وعن جولة المبعوث الأممي التحضيريّة؟ تبدو النتائج مرشّحة لتكرار النسخ السّابقة بجدارة.