رام الله- خالد فحلهي غربة لا أقل ولا أكثر منذ أن دفن اليهود موتاهم في أرضنا. جفت السماء، قلَّ الثمر وانتشرت النباتات الشيطانية في كل مكان. رام الله العاصمة السياسية الحالية لدولة فلسطين، المراقبة في الأمم المتحدة، هي سجن كبير يفصله عن المدن الأخرى كثير من الحواجز والشوارع التي يستخدمها المستوطنون وبالتالي الكثير من الموت.

إذا ما اندلعت الحرب مع المقاومة في غزة، فإنك تسمع صافرات الإنذار تدوي في كل أرجاء المكان. وإذا ما قُطعت الكهرباء ليلاً، ستدرك كم أنك محاط بتلك الكتل الاستيطانية المضاءة التي تلتهم كل يوم آلاف الدونمات من أراضينا الزراعية. لا يتوقف الأمر على ذلك، فإسرائيل تستولي على مصادر المياه التي تستهلك المستوطنات منها الكمية الكبرى. لذا تعيش معظم القرى والمدن الفلسطينية حالة من العطش وتنتظر بالأيام حصتها الأسبوعية من المياه. المدن الفلسطينية شبه معزولة، الطرقات بينها محفوفة بالمخاطر، النسيج الاجتماعي ممزق. الجيش الإسرائيلي ينتشر على هذه الطرق لإعاقة الحياة، الشرطة الإسرائيلية تتحين الفرص لإيقاف المركبات الفلسطينية وإثقال كاهل سائقها بغرامات باهظة، بسبب وبغير سبب.
أراقب الجبل المقابل والذي أصبح اسمه "بيت أريه"، أراقب التلة التي أصبح اسمها "عوفاريم"، على الأرض يمحو الاحتلال هوية الأرض والذاكرة... فأشعر بغربة عن المكان.
في قانون السير وأنت تقود مركبتك ليلاً، عليك أن تستخدم الضوء المنخفض عند مشاهدتك سيارة أخرى في الاتجاه المعاكس. وبرغم ذلك، يستخدم الإسرائيليون الضوء العالي في وجه السائق الفلسطيني ليلاً فيصاب السائق بالحيرة والعمى ويواصل سيره بحذر. بمنطق هذا المشهد وعقليته وبسياسة الأمر الواقع ودور المستوطنين "الحربجي" في الضفة، كحرق المحاصيل الزراعية وقلع أشجار الزيتون ورشق السيارات الفلسطينية بالحجارة، فضلاً عن الشعارات العدائية التي يخطونها على المساجد والجدران.
في فلسطين كل الأفعال المضارعة قابلة للفعل من قبل المستوطنين حتى القتل كما حدث مع الفتى محمد أبو خضير، فلا أفق لحل سياسي ولا خيار إلا بالمقاومة.
في الطريق تخطف بصري الأضواء العالية، أشعر برغبة ملحّة في مواصلة الطريق إلى حيفا، اصطدم بسنوات العمر، وبأحلام جدي وبحاجز عسكري. أقبع في رام الله، لم أشاهد بحراً في حياتي! سمعت عن حيفا عن يافا كما يسمع الأطفال حكايات "ألف ليلة وليلة".
هو، يقبع في غزة، لم يشاهد جبلاً في حياته. سمع عن جبال نابلس والخليل من كتاب الجغرافيا. هكذا نشعر بغربة المكان، نتقوقع في المدن كشجرة يصعب تحريكها، ونثمر رغم الجفاف أطفالاً يحلمون بوطن.