غزة | يوماً ما، كانت حركة التحرير الوطني الفلسطيني، «فتح»، تخوض قتالاً شرساً انطلاقاً من عدة عواصم، وبأقصى ما تملكه من طاقة. علم الإسرائيليون أنه لا مناص من إدخال المنظمة (منظمة التحرير الفلسطينية)، وبخاصة المكوّن الأساسي فيها (فتح)، إلى دوامة سياسية لا تنتهي، عملاً بقاعدة «إن أردت إفشال ثورة فأغرقها بالمال والسلطة».
هكذا بدأت مرحلة التفاوض المباشر بين منظمة التحرير والاحتلال عبر قنوات سرية، سبقتها «بالونات اختبار» إعلامية كثيرة، مع تمهيد إسرائيلي كبير صرّحت به مصادر عبرية كثيرة أوضحت أنها تعمّدت «العقول العنيدة» التي ترفض «العمل بلا بندقية».
البوادر العلنية للخط السلمي في تلك الأيام بدأت بمشاركة وفد فلسطيني في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 بقيادة حيدر عبد الشافي بعد تمهيد أردني، وتبعته لقاءات سرية أخرى أفضت إلى اتفاق أوسلو عام 1993، وخروج المنظمة و«فتح» من مشهد المقاومة إلى «دولة السنونو».
منذ تلك اللحظة، رأى التيار الإسلامي، الذي حمل كلاً من حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، في «أوسلو» وتوابعها «جريمة وإثماً كبيرين بحق التاريخ والشعب»، وأعلنتا أنهما في حلٍّ وبراءة من عملية التسوية والمفاوضات المباشرة. رغم ذلك، لم تخف «حماس» على وجه الخصوص تعاطيها مع بعض الطروحات السياسية، كإقامة دولة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 «من دون التنازل عن باقي الأراضي المحتلة»، والرضا بهدنة تمتد من عشر سنوات إلى ثلاثين عاماً «لتشكيل جيش التحرير»، لكنها ظلت تصرّ على موقفها الرافض للمفاوضات المباشرة ومصافحة الإسرائيلي.
وبينما ظلت «الجهاد الإسلامي» على موقفها المعلن حتى الحاضر، بدا أن «حماس» صارت أكثر «مرونة» عن ذلك اليوم الذي أصدرت فيه موقفاً شرعياً يحرّم هذه المفاوضات «لما تضمنته من تنازل عن ثوابت المسلمين، وخاصة التنازل عن 78% من أرض فلسطين التاريخية». ويمكن القول إن نقطة التحول لدى «حماس» بصورة علنية كانت عام 2006، عندما قررت المشاركة في الانتخابات التشريعية التي كان من نتائجها المشاركة بمقاعد نواب داخل المجلس التشريعي، والأخير جزء أصيل من منظومة السلطة الفلسطينية التي أنتجتها «أوسلو»، وذلك بعدما خاضت هي و«الجهاد» الانتخابات البلدية، لكن الأخيرة قالت إن المشاركة في البلديات، غير التابعة مباشرة للسلطة، ليست كالمجلس التشريعي.
ما يزيد الضوء على أن ذلك التحول كان مفصلياً، أن أمير قطر، تميم بن حمد، كشف قبل أيام عن أن موافقة «حماس» على دخول الانتخابات التشريعية كانت بعد طلب والده (حمد) منها الدخول بناءً على «رغبة أميركية». وبعدما سيطرت الحركة على غزة لثماني سنوات خاضت فيها ثلاث حروب، وسلمت الحكم لحكومة التوافق بينها وبين «فتح» قبل الحرب الأخيرة، أعاد قياديوها الحديث علناً عن إمكانية التفاوض المباشر، خاصة أنهم خاضوا جولات غير مباشرة في القاهرة من أجل إنهاء الحرب الأخيرة.

بين المباشر واللامباشر

وبعدما أنهى نائب رئيس المكتب السياسي لـ«حماس»، موسى أبو مرزوق، الجانب الشرعي من القضية بالقول إنه «لا غبار على التفاوض المباشر»، قدم التبرير السياسي والمرحلي بالإشارة إلى أن الحركة عالقة في أزمة «الوسيط» الذي تشكك في مدى جديته للتوصل إلى حل يفضي إلى تحقيق مطالبها، وهو وسيط أجبرت على التعامل معه بسبب «لعنة الجغرافيا» التي جعلته منفذ القطاع الوحيد.
مع ذلك، لا يمكن البناء على هذا الظرف المرحلي لتبرير تحول كبير كالذي طرحه أبو مرزوق، لأن قيادات أخرى في الحركة، كمحمود الزهار، تؤكد أن العلاقة بالقاهرة، وإن مرت بمراحل صعبة، هي أساسية ومحورية ويمكن البناء عليها. أيضاً لا يمكن الهرب من حقيقة أن «حماس» لجأت إلى التفاوض المباشر مع مقربين من أروقة القرار الإسرائيلي، وكان من أبرزها مفاوضات صفقة جلعاد شاليط، إذ كشف قياديون في الحركة أنه جرت اتصالات بين القيادي غازي حمد والكاتب الإسرائيلي غرشون باسكين المقرّب من رئيس وزراء الاحتلال بينامين نتنياهو، بين عامي 2010-2012. لكن الصفقة تمت بعد ذلك برعاية مصرية واضحة، كما جرى أيضاً في حرب عام 2012.
التحوّل الفعلي في الخيارات السياسية للحركة بدأ عام 2006

بناءً على ما سبق، لا يمكن رؤية «مشكلة الوسيط» على أنها السبب الرئيسي نحو التحول، مع أن مصادر في «حماس» تفيد «الأخبار» بأن الوسيط المصري «كان يضع شروطاً إضافية لما تشترطه إسرائيل، وكان يتأخر في إيصال الرسائل المتبادلة، بل حاولت مصر الحصول على شاليط مقابل بعض الأسرى لا المئات منهم».
«في تلك اللحظة»، تضيف المصادر، «مرّر الضابط المتقاعد في الموساد ديفيد ميدان مقترحاً لتفاوض مباشر مع الشهيد أحمد الجعبري، لكن الأخير رفض ذلك». وأيضاً نقل باكسين عن الضابط ميدان قوله إن «الوسيط (القاهرة) في بعض محطات التفاوض كان غير متحمّس لإنجاح الصفقة».
«قنبلة اختبار»، هذا المصطلح الذي يمكن به تفسير الحديث الذي أخرجه القيادي الحمساوي، علماً بأنه حتى اللحظة لم ينشر في الإعلام تسجيل المقابلة الكاملة التي اجتزئ منها هذا المقطع، ثم جاء الحوار المباشر مع أبو مرزوق نفسه (راجع العدد ٢٤٠٧)، لكنه لم يقدم إجابة مباشرة عن التفاوض المباشر، فيما حمل كلام محمود الزهار (راجع العدد ٢٣٩٦) نفياً قاطعاً لإمكانية التفاوض المباشر. ومع هذا كله فالاثنان التقيا على أن «التفاوض المباشر مع المحتل لا يوجد فيه مخالفة شرعية، لكنه يعاكس وجهة النظر السياسية التي تعتمدها الحركة في الوقت الراهن».
وبينما رأى أبو مرزوق أن الوسطاء بينهم وبين الاحتلال «يثقلون كاهل الفلسطينيين»، اقتصر الزهار على القول إن البديل هو البحث عن وسطاء آخرين في حال لم يؤدّ الموجودون الدور المطلوب، وظل ينفي إمكانية التفاوض المباشر. بعد ذلك، عاد الاثنان لينفيا ما نشرته صحف محسوبة على مصر وقطر نقلت عن «مصادر مجهولة منسوبة لحماس» قولها، إن «الحركة تجري مراجعات فقهية وشرعية من أجل التفاوض مع إسرائيل». وردّ الزهار بأن «المراجعات مطلوبة داخل الحركة، لكن مراجعات علاقتنا بالجانب الإسرائيلي غير واردة».
ولعل حالة التلميح ثم النفي تمهّد، كما يرى مراقبون، إلى جعل الموضوع قابلاً للنقاش في الشارع، حتى يخفف حدة أي قرار لاحق تتخذه الحركة، كما رأوا فيه رسالة تهديد واضحة إلى «فتح» في حال تعرقل المصالحة والملفات الأخرى.

عن حقيقة المراجعات

القيادي في «حماس» والمستشار السابق في رئاسة الوزراء، أحمد يوسف، أكدّ بدوره وجود مراجعات في بعض الرؤى والاستراتيجيات على المستوى القيادي لحماس، «وغرض ذلك بلورة مواقف لما هو مقبل على صعيد القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها طبيعة العلاقة الداخلية والخارجية». لكنه أكدّ لـ«الأخبار» أن «المفاوضات المباشرة مع إسرائيل ليست ضمن أجندة الحركة في هذا الوقت، لأنها لا تشعر بالأزمة، والسلطة تتكفل بهذا الدور». واستدرك: «حينما تدخل الحركة منظمة التحرير، فإن المنظمة هي التي ستفاوض باسم الجميع وليست حماس من ستفاوض». وأعاد يوسف التشديد على أن هناك مراجعة لطبيعة العلاقة الوطنية الداخلية، «وعلاقة المقاومة بحكومة التوافق، إضافة إلى موقف حماس من الانتخابات الرئاسية وهل ستشارك فيها أم ستدفع بمرشح مستقل لها، وكلها مراجعات أوسع من قضية المفاوضات المباشرة».
أما عن موقف الجماعة الأم، الإخوان المسلمين، من كل هذا الضجيج، فأكدّ رئيس مجلس الشورى في إخوان الأردن، حمزة منصور، أن «التفاوض المباشر مع إسرائيل يخالف مبدأ حماس، بل يتناقض مع ميثاقها، لأنه يمثل اعترافاً مباشراً بالاحتلال ويقرّ له بالأرض الذي يحتلها». وقال منصور، لـ«الأخبار»، إن «الحركة التي عرفت بصدقها لن تقدم على هذه الخطوة برغم الأخطار التي تواجهها من عمقها العربي والإسلامي». وعن التشاور مع الجماعة، شدد على أن «حماس» لن تقدم على أي خطوة من هذا القبيل «إلا بالتشاور مع كل الأطراف الشرعية»، مستدركاً: «هي لن تفاوض مباشرة، لأن مصداقيتها مرتبطة بجهادها، وانزلاقها في أي مفاوضات سيفقدها الكثير».
من جهة «فتح» التي تفاوض الاحتلال مباشرة، فهي ترى أن «الحديث عن مفاوضات مباشرة بين حماس وإسرائيل أمر سابق لأوانه»، وذلك «ليس لاعتراض الحركة (الإسلامية) على مبدأ التفاوض، بل يجب أن تكون جزءاً من منظمة التحرير التي تفاوض باسم الجميع»، يقول القيادي في «فتح» يحيى رباح. ويضيف لـ«الأخبار»: «المفاوضات الآن ستفتح الأسئلة والشكوك في تنازلات قد تقدمها حماس»، وذهب إلى أنه «لا يصح أن تفاوض حماس في وقت تواجه السلطة فيه أكاذيب إسرائيل ضدها».
وبينما يبقى الطرف الآخر (الاحتلال) صامتاً أمام هذه الضجة، فإن موقفه مفتوح على احتمال الموافقة بشروط أو الرفض للحصول على تنازلات أكثر إذا قررت «حماس» في لحظة ما فعل «المحرم شرعاً سابقاً»، لكن كل من حول الحركة يرى أن هذا الطريق «بعيد»، وهو لا يعدو كونه رسائل ضغط في الداخل ونحو الأنظمة العربية.




تميم: قياديّو «حماس» يؤمنون بالسلام!

كشف أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، عن أن الأميركيين طلبوا من والده، الذي كان أميراً لقطر، التحدث مع حركة «حماس» من أجل حملها على المشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية». وقال تميم، خلال مقابلة على شبكة «سي. إن. إن.» الإنجليزية، إن والده قال لقياديي «حماس»، قبل عشر سنوات، إن الأميركيين يطلبون أن تشاركوا في الانتخابات المقبلة، «فكان ردّهم أننا سنشارك، لكن هل تعتقد (حمد) أن المجتمع الدولي سيقبل بنا؟... فقال والدي: أجل، لأن الأميركيين تمنّوا عليّ أن أطلب منكم المشاركة... ثم شاركوا (حماس)». وعن الفرق بين «حماس» قبل عشر سنوات واليوم، قال تميم: «الفرق أن حماس باتت اليوم أكثر واقعية، فقياديوها يؤمنون بالسلام ويريدون السلام، ولكن على الطرف الآخر (إسرائيل) أن يؤمن بالسلام وأن يكون واقعياً أكثر». واستطرد: «نؤمن بأن حماس مكوِّن مهم من الشعب الفلسطيني... لدينا خلافات مع أصدقاء يعتبرونها مجموعة إرهابية... نحن لا نعتبرها كذلك».
(الأخبار)