أن يُباع برميل النفط الخام حالياً وفق المستوى الذي كان سائداً خلال الأزمة المالية بين عامي 2008 و2009، فذلك يُعدّ ضرباً من الهرطقة الاقتصادية؛ فبعض الأفكار المتطرفة قد تصل إلى إحراقه عوضاً عن تسليمه بسعر لا يتجاوز 35 دولاراً.ولكن هذا ما فعلته السعودية أخيراً، ويبدو أنها مستمرّة فيه في حدود معينة، حيث باعت وقودها الأحفوري لزبائنها في كافة المناطق والأقاليم مقابل هذا البدل «الرمزي»!

في سوق مثالية تبعث هذه الخطوة على كثير من الاستغراب. بيد أن تحليلها في العالم الحقيقي حيث التنافس على الأسواق الاستراتيجية وحيث يُستخدم النفط كأداة سياسية، ليس معقداً. ووفقاً لما تنقله صحيفة «فايننشال تايمز» عن محللين مطلعين على ديناميات السوق حالياً، واستناداً إلى تصريحات شركة «أرامكو» أخيراً، فإنّ من المستبعد أن تعمد السعودية إلى خفض إنتاجها، حتى لو أدى سلوكها إلى فوائض كبيرة على مستوى العرض وإلى تراجع الأسعار إلى مستويات غريبة. السبب؟ الفوز بحصص أساسية في أسواق للتصدير، وتحديداً في آسيا.
أدى هذا الإجراء إلى انخفاض سعر برميل النفط من مزيج «برنت» إلى 92 دولاراً هذا الأسبوع، وهو المستوى الأدنى خلال 28 شهراً، كما تراجع برميل الخام الأميركي إلى ما دون 90 دولاراً.
لنضع جانباً الانعكاس المباشر لتراجع الأسعار على السوق وعلى المستهلكين. هناك دلالات كثيرة لخطوة السعودية. أولاها على مستوى مجموعة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، التي يبدو أن استراتيجيتها للحفاظ على الأسعار عند مستويات عادلة تتلقى صفعة سعودية من الطراز الأول.
أساساً هناك تضارب قائم داخل المجموعة، وتحديداً بين السعودية وغريمتها إيران. الأولى هي الأكبر نفطياً في المنطقة ولديها هامش الرفاهية الكامل لخفض السعر عبر إغراق السوق لإرضاء حلفائها أو حتّى لتحقيق المكاسب السياسية. أما الثانية فتُعدّ من الصقور الذين يشدّون دوماً صوب مستوى سعري فوق مئة دولار للبرميل.
أثبت التاريخ أن تجارب السعودية مع نفطها غير مشجّعة


وبغض النظر عن التحليل الخاص بالأسواق الجديدة، يبدو أن السعودية تُغرق السوق النفطية بالبراميل التي تعرضها بأسعار منخفضة لممارسة ضغوط سياسية على إيران، ربما لكون الأخيرة تتأثر بتراجع مستويات الأسعار أكثر من جارتها اللدودة.
استناداً إلى حسابات المحللين في مصرف «سيتي» الأميركي، فإنّ السعودية والإمارات تتمكنان من تحقيق توازن في الميزانية العامة عند سعر للنفط يبلغ 89 دولاراً و74 دولاراً على التوالي؛ طبعاً كلما ارتفع السعر فوق هذين الحاجزين تُرجم الأمر فوائض في خزنتي البلدين الخليجيين. أما في حالة إيران، ودائماً وفق تحليل البنك الأميركي، فإن التوازن لا يتحقق إلا إذا ارتفع السعر إلى 130 دولاراً.
قد يكون هذا التحليل مؤامراتياً، غير أنّ الجانب الإيراني نفسه شدد أخيراً على ضرورة تعاون أعضاء مجموعة «أوبك» لاحتواء استمرار تراجع السعر.
وفي ظلّ تعدّد اللاعبين في السوق النفطية حالياً، من فنزويلا والولايات المتّحدة إلى أنغولا فإيران والخليج مروراً طبعاً بـ«داعش» (تنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر على حقول نفطية في العراق وسوريا)، يُمكن استعراض تحليلات متضاربة تُفسّر الشواذ السعودي.
غير أنّ الإطار الأكبر للتحليل، أي بعيداً عن المصالح المباشرة في صراع المحاور في الشرق الأوسط، يفرض مقاربة كلية. صحيح أنّ البعض يؤكد أن هذه المرحلة هي مرحلة ترقب من جانب المستثمرين بانتظار موجة ارتفاع الأسعار المقبلة بداية الشتاء، إلا أن هيكلية السوق النفطية هي في حال تبدّل معقّدة.
المعطيات في سوق النفط متعلّقة فعلاً بمستوى الطلب والعرض. الأوّل قلّما تؤثر فيه السياسة نظراً إلى أنه نابع عن حاجات حقيقية: خزانات السيارات والطائرات يجب أن تمتلئ، والمعامل يجب أن تشتغل، ولا يُمكن التخلي عن التدفئة والتبريد.
أما الثاني فقصته معقدة أكثر بكثير. بداية، وراء المنتجين والمالكين حسابات كثيرة، يُمكن أن تؤثر فيها السياسة والمصالح غير الاقتصادية. ولكن في حال سلّمنا أن كل العوامل الأخرى ثابتة، يرتبط الإنتاج بالمعطيات التكنولوجية والقدرات المتوافرة لتأمين أكبر كمية ممكنة من النفط والموارد الطبيعة في لحظة معينة، وبالتالي عرضها في السوق.
خلال القرن الماضي، سيطرت فكرة على عقول محللي السوق النفطية: إنتاج النفط يتجه إلى أوج سيتحقق عاجلاً أو آجلاً. الاعتقاد كان متطرفاً إلى درجة أنه عند بداية العصر النفطي – وتحديداً عام 1885 - جزم جون أرشبولد، وهو شريك رجل الأعمال الشهير جون روكيفيلر في «ستاندارد أويل»، بأن ظاهرة النفط مؤقتة وبأنه مستعدّ لأن يشرب كل برميل نفط يُستخرج في غرب نهر الميسيسيبي.
استمرّ التشاؤم غير الحذر طوال العقود اللاحقة إلى أن تحوّل من تهويل نابع عن فهم محدود لمحدودية الموارد الطبيعية إلى نظرية علمية طوّرها الباحث الجيولوجي لدى شركة «شل» (Shell) ماريون كينغ هوبيرت، وتتوقع أن إنتاج الولايات المتّحدة من النفط سيبلغ الأوج عند مطلع السبيعينيات وأنه سيبدأ في الانحدار تدريجاً.
وقد حصل ذلك بالفعل، غير أنّ ما لم تتوقعه النظرية أو حتّى أي مراجعة لها، خلال العقود الثلاثة اللاحقة، هو أنّ الإنتاج عاد إلى الارتفاع عام 2009، وتسارعت الوتيرة في خمس سنوات ليبلغ المعدل 8.3 ملايين يومياً في النصف الأول من العام الحالي، على ما تفيد به صحيفة «وول ستريت جورنال».
تنقل الصحيفة الأميركية عن مجموعة من الخبراء واللاعبين الأساسيين في عالم النفط آراء متفاوتة حول مستقبل هذا المورد. البعض يرى أن ذروة النفط لن تكون على مستوى الإنتاج بل على مستوى الاستهلاك، وأن التكنولوجيا ستفرض قريباً بديلاً مقبولاً من النفط في الاستخدامات الأساسية. برأي أحدهم، فإن «دور النفط في قطاع النقل هو أضعف مما يعتقده كثيرون».
آخرون يؤكّدون أن فورة الإنتاج الحالية – وهي نفسها التي تؤدّي إلى تراجع الأسعار في ما يُشبّهه البعض بأنه «حرب نفطية» – هي مؤقتة وأن النفط الصخري سيُستهلك سريعاً ولن تنفع التكنولوجيا الحديثة، إذا كانت الكميات الكامنة بالكلفة القائمة غير اقتصادية.
فلنعد إلى قصتنا مع السعودية. قد تكون المرحلة هي المرحلة المناسبة لكسب حصص متزايدة في السوق عبر «تكسير الأسعار»، وفي الوقت نفسه الضغط على إيران والولايات المتّحدة. ولكن هل ستكون هذه السياسة ناجحة؟ لقد أثبت التاريخ أن تجارب المملكة مع نفطها وإيراداته غير مشجعة: لم يُستثمر للتنمية ولم تستخدم إيراداته لتطوير الاقتصاد غير النفطي وخلق الوظائف المهمة.