في إسرائيل، كما كلّ مرة، عندما يتعلّق الأمر بالأمن القوميّ، فإنّ أقصى اليمين يتحّد مع ما يُطلق عليه في الدولة العبريّة "اليسار". ربّما هذا ما يُفسّر إصدار المؤرّخ والنائب السابق في الكنيست مردخاي بارأون، وهو من حركة "ميرتس" اليساريّة، كتاباً جديداً يعرض فيه مسيرة وزير الأمن الإسرائيليّ الأسبق، موشيه دايان (1915-1981). موشيه الذي قال بعد عدوان (حزيران 1967): "إذا أردت أنْ تبحث عن العدل، فلن تجد إسرائيل، وإذا أردت أنْ تبحث عن إسرائيل، فلن تجد العدل".
الكاتب توم سيغف عرض في صحيفة "هآرتس" العبريّة الكتاب، ولم يُخفِ أنّ المؤلّف، بارأون، يكنّ الاحترام والتقدير للشخص الذي يسرد سيرة حياته، خصوصاً أنّهما يعرف أحدهما الآخر منذ 1956. يقول سيغف: "برغم أنّ المؤلّف حاول تجميل سيرة دايان، إلّا أنه لم يتمكّن من إخفاء شخصيته التي كانت انتحاريّة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، وأيضاً قصة حياته المعقّدة والمليئة بالتناقضات والألغاز مع كثيرٍ من اليأس...

تماماً مثل حكاية دولة إسرائيل".
ويقول مؤلّف الكتاب بارأون - الذي تبوأ منصب مدير مكتب دايان لسنوات - إنّ الأخير، خلافاً لشخصيته المتزمتة والمُتشدّدة التي عُرف بها، كان إنساناً حنوناً "وتعامل مع جميع الموظفين بإنسانيةٍ بالغةٍ". كذلك كان ضعيفاً، "ففي مرّات عديدة لم تُنفّذ الأوامر التي أصدرها، حتى في زمن الحرب، ولم يعترض على ذلك، بل تنازل عن رأيه في مناقشات سياسيّة وأمنيّة وتبنّى آراء غيره".
ونقل عن الوزير الأسبق أنه كان يكره الأيديولوجيات، "وحاول دائماً أنْ يكون عمليّاً (براغماتياً) ويفحص الوضع في ضوء المتغيّرات". مع ذلك "حتى يومه الأخير"، بقي متمسكاً بنفسه و"قيمه المبدئيّة وإخلاصه للمشروع الصهيونيّ، كذلك لم يكُن يحمل الآراء المُسبقة".
تدقيق كل من دايان وبيغن في اتفاق "كامب ديفيد" كاد أن ينسفه

وتجنّب المؤلف ذكر مجزرة اللد الفظيعة، رغم مشاركة دايان بها، مكتفياً بالإشارة إلى أنّ هذه المعركة كانت بداية انخراط الوزير في الحروب. ولفت إلى أنّ علاقته برئيس الوزراء الإسرائيليّ الأوّل ديفيد بن غوريون كانت متوترةً دائماً "لأنّهما كانا ماكرين، بل دايان كان أكثر مكراً ودهاءً".
ويُضيف بارأون أنّ "مدير مكتبه" شارك في عمليات طرد كثيرين من العرب من أراضيهم، "لأنّ هذا الأمر كان ثمن الصهيونيّة". وعن مجزرة قبية، التي قادها أرييل شارون وشارك فيها دايّان، نقل عنه: "ليس الأجانب فقط، بل إسرائيل وجميع يهود العالم ينتظرون منّا أنْ نُحافظ على مستوى من الأخلاق، أكثر من أيّ جيش آخر في العالم".
الكتاب يكشف عن أنّ دايان كان من أشّد المعجبين بشارون، وجاء العدوان الثلاثيّ على مصر في 1956 ليمنح الأول المجد والسمعة العالميّة "لكنّه لم يُحقق أحلام إسرائيل السياسيّة". ويتساءل المؤرّخ بارأون: "كيف تمكنّ قادة مُجربون على شاكلة بن غوريون ودايان، من الاقتناع بأنّ الدولتين الاستعماريتين اللتين كانتا في حال سيئّة وقريبتين من الغرق، بريطانيا وفرنسا، ستعملان من أجل إسرائيل بخلع الرئيس المصريّ آنذاك، جمال عبد الناصر؟".
ويكشف أيضاً النقاب عن أنّ دايان كان بمقدوره في عدوان حزيران الامتناع عن احتلال شرقي القدس والضفّة الغربيّة، "لأنّ الجيش الأردنيّ لم يؤثر في معاركه على مجرى الحرب، لكنّ دايّان لم يتمكّن من كبح جماح غريزته"، إذْ إنّ إسرائيل، وفق سيغف، بقرارها احتلال الضفّة، وجّهت رسالة فيها أنّها تنازلت عن السلام، مضيفاً أنّ الكتاب يتجاهل تشريد مئات آلاف الفلسطينيين والسوريين من الضفّة والجولان العربيّ السوريّ.
المؤلّف بارأون خصص جزءاً من كتابه لعلاقة دايان بفلسطينيي الداخل، وقال إنّه عمل من أجل تطوير حياة مشتركة بين الشعبين، "لكنّ وجهة نظره لم تتعدّ تفكير إقطاعيّ من العصور الوسطى وتعامله مع العبيد في مزرعته، وعندما كان قائد المنطقة الشماليّة في جيش الاحتلال استغلّ الحكم العسكريّ الذي كان مفروضاً على فلسطينيي الداخل (1948-1966) كي يُصادر المزيد من الأراضي العربيّة لبناء المستوطنات اليهوديّة ضمن مشروع تهويد الجليل الذي لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا".
كذلك يكشف الكتاب عن أنّ أكبر إخفاق في تاريخ دايان كان في (حرب الغفران 1973)، فهو كان شريكاً في المسؤولية عن المفاجأة، وتحمّل قسطاً كبيراً من الهزائم التي لحقت بالجيش الإسرائيليّ، وخصوصاً في الأيّام الأولى للحرب.
أمّا الإخفاق الأكبر، وفق المؤرخ، فكان رفض دايان رسائل الرئيس المصريّ في ذلك الوقت، أنور السادات، التي كان بإمكانها منع الحرب. يُضيف بارأون: "في الأيّام الأولى من الحرب أُصيب دايّان بكآبة شديدةٍ وهلعٍ كبيرٍ، وذلك لاعتقاده أنّ العرب سيقضون على إسرائيل، وتحدّث عن الخراب الثالث للهيكل" المزعوم.
سيغف يُشير، من مراجعته الكتاب، إلى أنّه في تلك الأيّام كان الحديث في إسرائيل عمّا يُسّمى "الخيار النوويّ"، وهذا من أهّم الأحداث في تاريخها، فمؤلّف الكتاب يقول إنّ دايان اقترح على رئيسة الوزراء آنذاك، غولدا مائير، أنْ تلجأ إلى الخيار النوويّ، وطلب منها أنْ يكون جاهزاً.
في هذا السياق، يقول الكتاب إنّ وزير الأمن في تلك الأيّام كان يُثير الشفقة، "لذلك لم تعد إمكانية انتخابه لما بعد رئاسة وزراء إسرائيل قائمةً". كذلك تطرّق إلى دور دايان في التوصّل إلى سلام مع مصر خلال اتفاق "كامب ديفيد" عام 1979. قال إنّ دايان وبيغن جعلا التوصّل إلى الاتفاق مهمّة شبه مستحيلة، "لأنّهما دققا في كلّ نقطة وفاصلة، الأمر الذي هدد المشروع برّمته"، مؤكّداً أنّ هذا التصرّف كان مقامرة في غير محلّها.
في نهاية مُراجعة الكتاب، يقول سيغف: "من اقتناع دايان بأنّه لا يُمكن حلّ الصراع مع الفلسطينيين بالوسائل العسكريّة، لم يمنع إقامة المستوطنات في الضفة، بل شجّعها، وفي رأيه كان هذا نابعاً من تعلّقه الأعمى بالمشروع الصهيونيّ".