موطني.. موطني".. وطفلة يميل رأسها يميناً كأن جديلتها اليمنى اثقل من تلك اليسرى. جديلتان دراسيتان معقودتان بالساتان الأبيض. بدت الفتاة تسرح بعيداً كأنما بمعاني النشيد .. وتبكي. لم تلحظ تأملي لها وحدها من بين عشرات الطلبة. عادت مع الجرس لوعيها، نفضت نفسها بحركة سريعة ثم مسحت دموعها ومشت في الطابور خلف زملائها للفصل.
لا أدري كيف بقيت أراها أمامي قريبة ساكنة، بعدما ابتعدت. كان طفلي في بطني يشاركها البكاء والعناق. لم يكن خيالاً وأُراهن بتورم قدميَّ أن هذا ما حدث. نادتني المعلمة لألحق بهم من اجل مقابلة مع أحدهم. مشيت بتثاقلٍ وصعدت الدرج. احسست في كل خطوة أن الدرج قد يسقط بي. فالدرابزين نالته شظايا من القصف. وكنت كلما صعدت درجاً اصبح الدمار اكبر.. فجوات واسعة في الجدران، وتشققات طولية في الممرات. تمنيت لو ان جنيني يغمض عينيه حتى لا يحفظ هذه المشاهد فيعيشها قبل الأوان. قبل ان يولد.
قلت للمعلمة: "هلق بعرف أكمل لحالي.. شكرا الك"
بحثت عن وجه تلك الفتاة حتى وجدتها. كانت في الفصل الثالث تسند وجهها بيديها الى المقعد. قلت في نفسي:"مش حرام كل هالبراءة تكون موجوعة؟". صخب الأولاد من حولها كان لا يُطاق، لكنها مع ذلك كانت جداً هادئة كأنما هي لا تزال في عالم آخر. للحظة لم تشعر باقترابي.. "شو اسمك حبيبتي؟" سألتها. فوجئت واجابت كالشاطرين "اسمي مريم". سألتها "ليش يا مريم ما بتلعبي مع باقي زمايلك؟ ليش قاعدة لحالك؟". لم تعرف بم تجيب.. نظرت حولها ثم اليّ لتقول بنبرة عالية شيئا ما "تذكرت أبويا لما كان يحملني ع ضهرو ويلعبني. كان بيحبني كتير..ولا حدا بيحبني زي أبويا ما كان يحبني".
أدهشني ردها العنيف وعادت تبكي من جديد.. سألتها: "وين أبوكي هو يا مريم؟" غطت وجهها بيديها وسكتت قليلاً وأجابتني: "أبويا استشهد بالحرب.. أبويا راح". "إن شاء الله بالجنة حبيبتي ..انتي لازم تكوني فخورة انه أبوكي شهيد". هكذا قلت لها. وإلا فماذا اقول؟
قلت ما قلته كأنني قوية ومتماسكة أو كبيرة كفايةً لأستوعب فكرة يُتم فتاة بعمر التسع سنوات. لو كنت في مكانها لعانقته في تلك اللحظة وقلت لهم: ادفنوني معه، لن أحتمل اليتم فوق كل ما يحدث هنا في غزة. يتم وخوف وفقر وقلب يشرب الوجع قبل الحليب؟ هذا كثير..
فجوة كبيرة في الحائط بجانبها.. أشحت بوجهي نحوها لكي لا ترى اني أكتم بكائي. تأملتُ التلاميذ حولها، لم يكونوا جميعهم بالزي المدرسي، فمنهم من جاء بملابس عادية، هي كل ما توافر له، على اعتبار ظروف الحرب. يقضون أيام ترفيهية برفقة منشطين ومنشطات يلاعبونهم ويرسمون على وجوههم، وأتساءل: أيكفي كل هذا لمسح ذكريات الحرب من رؤوسهم؟ أو لكي يعودوا أطفالا أصحاء؟ أطفال بكامل براءتهم.. انقياء من الخوف والقلق؟!
حين تتأملهم جيداً ترى بعضهم يحمل وجوه الكبار. أحمد مثلا، الذي كان على وجهه رسم وجه النمر قال لي "حلو المدرسة تضل هيك.. لعب ورسم. بس هادا ولا مرة بينسيني الحرب، وكيف مات ابوي وشردنا من دارنا لدار الجيران بآخر الشارع، وكيف انحبسنا وكيف كنت أحضن أخويا الصغير لما يخاف". سكت فجأة ثم عاد يقول: "امي بتحكيلي انت راجل البيت بعد أبوك.. بس أنا صغير. يعني ما برضى أحكيلها اني خايف ترجع الحرب مرة تانية".
أربع وعشرون مدرسة دُمرت تدميرا كاملا. ومئة وعشرون على نحو جزئي، وتقريباً سبعون مدرسة تابعة للوكالة تضررت من الحرب. كنت أظن أن الحرب تأخذ الناس فقط، لكنها جرفت بطريقها الأخضر واليابس، مساجد ومدارس وبيوتاً وأراضي أيضا.
في طريقي إلى العمل يومياً، أمرُّ بمدرسة على الأقل لجأ اليها الأهالي ولا يدرون اين يذهبون الآن بعد الحرب. هُدمت بيوتهم ولم يتحمَّلوا إيجار الشقق.. على قلَّتها.
اخي يوسف، كان منهم ايضا. هكذا علمت. فقد رن هاتفي منذ ايام ولما اجبت، رجل غريب سألني: "كيف حالك؟". مين معي عفواً؟ سألت. فأجابني الصوت ضاحكاً: معاكي أخوكي يوسف!
اخي الذي غادر البيت منذ سبع سنين، وسكن بعيدا مع زوجته واطفاله، اخبرني انه والعائلة بخير لكن "راح المال والبيت والعفش كله". وحين سألته اين هو الآن قال "أنا بمدرسة في بيت حانون! ومرتي ولدت بالحرب في المدرسة. عندي خمس ولاد صار.. تقلقيش علينا، المهم انتبهي لحالك".
لم أكن لأتخيل يوماً أن حرباً ستجعلك يا اخي لاجئا وللمرة الثانية في مدارس الأونروا. لاجئ تتشارك الكوبونات الغذائية والمسكن والشرب مع آلاف المشرّدين من ابناء شعبنا! كأنما هو حرام علينا ان نركن الى بيت وظيفته السكن ومدرسة وظيفتها تربية الاولاد. كأننا في فوضى من وظائف العمران، وفي فوضى من العيش العشوائي. كيف سيستطيع التلامذة التركيز؟ ومن يسألهم غدا اذا رسبوا.. لمَ فعلوا ذلك؟
ابنة اخي الكبيرة بعمر "مريم" التي رأيتها اليوم، ربما لذلك التصق نظري بها. بدت لي كل التلميذات مريم وكل الاولاد ابني الذي سيولد بعد قليل