رام الله | في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، أدت وكالة الغوث، «الأونروا»، دوراً أشبه بالسيف ذي الحدين، وظهر ذلك بوضوح في خطابات مسؤوليها وبياناتها الصحافية، التي ساهمت في تحويل اللاجئين إلى مجموعة من السكان تجب إدارتهم، كما قدمت إلى اللاجئ الفلسطيني مفهوماً جديداً، بتصنيفه من ضمن فئة من السكان، الذين لا يملكون حق الدفاع عن حقوقهم.
ومنذ زمن خلقت الديموقراطيات الحديثة في عصر المواطن فئة، هي اللاجئون. فئة ليس لها الحق لأن يكون لها الحق. وجرى العمل على نزع المعنى السياسي من هذه الفئة: (لماذا هم هنا؟)، (ولماذا لا يمكنهم العودة؟)، وخصوصا عندما يتعلق الأمر باللاجئ الفلسطيني، تمارس المنظمات الإنسانية آلية تجعلها متشابهة مع أصحاب السيادة والسلطة (سلطات الاحتلال والدول العربية المضيفة)، في نزع المعنى السياسي من اللاجئين.
وكما حوّلت سلطات الاحتلال الفلسطينيين من سكان إلى شيء يمكن إدارته، عوضاً عن أن يكونوا أفراداً في الفعل التاريخي والاجتماعي، فالحال نفسها مع «الأونروا» التي تتعامل مع اللاجئين الفلسطينيين في كل مكان، على أنهم مجموعة يمكن إدارتها بحزمة من البرامج التي يطغى عليها الطابع الإغاثي ـ الإنساني.
انطلاقا من هذه الفكرة، كان الاعتماد على الصورة كجزء من السياسة التي تتبعها «الأونروا»، بصفتها إحدى وسائل الاتصال التي تستثني وتخفي بعض الحقائق وبعض الفاعلين المؤثرين في الحدث الذي تنقله، بينما تركز على جانب واحد فقط. في هذا السياق، يمكن مراقبة الصورة التي استعملتها «الأونروا» ضمن حملة «دعونا نمر لإغاثة المدنيين في سوريا»، التي من الممكن أن تخرج «الأونروا» بحملة مشابهة لها، في إطار حملاتها الداعية لإعادة إعمار وإغاثة غزة بعد الحرب.
هدف الحملة، كما يقول المنظمون، كان تذكير الرأي العام العالمي بمحنة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، والظروف المختلفة التي يواجهها المدنيون هناك. وسعت هذه الحملة إلى جمع 23 مليون تغريدة ومشاركة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
«يقال إن الصورة قد تعادل ألف كلمة، ومن خلال دعمكم للحملة ستنشر الصورة المروعة التي تظهر الآلاف من سكان مخيم اليرموك وهم ينتظرون المساعدات، على لوحة كبيرة في ساحة التايمز في نيويورك بالقرب من مقر الأمم المتحدة، لإيصال رسالة قوية وواضحة من المنظمات الإنسانية العاملة على الأرض في سوريا إلى المجتمع الدولي، أن تواصل معاناة سكان اليرموك مرفوض وغير مقبول. لاحقاً سيطلب ممن في ساحة التايمز تصوير أنفسهم وإظهار الصورة المروعة لسكان المخيم في الخلفية لنشرها عند جميع شركاء وداعمي الحملة الـ 23 مليون».
في الوصف المرافق للحملة والصورة أعلاه لا إشارة إلى الفلسطينيين ومعاناتهم في مخيم اليرموك، وهو ما يمثل نكبة أخرى امتداداً للنكبة الأولى. كذلك، برغم أن الصور تنقل المعاناة التي يعيشها الإنسان، فإنها تتغاضى عن التطورات اليومية والعناصر الأخرى المحيطة بهذه الصورة، كالمقاومة مثلاً.
من هنا، جاء استعمال المنظمات الإنسانية للصور، بوصفها أداة فعّالة في زيادة الوعي وجمع الأموال، كأنه بيع للمعاناة والألم، وتعزيز نموذج الإنسان العاجز الآتي من الجنوب، الذي هو بحاجة دائمة وماسة للمساعدة التي لا يمكن له الحصول عليها إلا من المنظمات الإنسانية الغربية.
إضافة إلى ذلك، أدت البيانات الصحافية دورها في إطار السياسة الإعلامية التي اتبعتها، وتتبعها، «الأونروا» اتجاه اللاجئين الفلسطينيين.
مثال ذلك ما نشر من بيانات خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة. فقبل المدة الواقعة ما بين 17 – 22 تموز، أصدرت المنظمة من مكاتبها في القدس وغزة بيانات صحافية عن وجود صواريخ في المدارس التابعة لها، وأوضحت أنه «في سياق عمليات التفتيش الاعتيادية لمنشآتها، اكتشفت الأونروا صواريخ كانت مخبأة في مدرسة خالية في قطاع غزة وحال اكتشافها طلب من عاملي الأونروا إخلاء الموقع وبالتالي لم نتمكن من تحديد عدد الصواريخ». وذكر البيان أن «المدرسة تتوسط مدرستين أخريين تابعتين للوكالة تؤويان 1500 شخص نزحوا قسراً عن بيوتهم»، مضيفة أنها «تدين بشدة تلك الجماعة أو الجماعات المسؤولة عن وضع الأسلحة في واحدة من منشآتها». كما أشار البيان إلى أنه «فوراً في أعقاب ذلك الاكتشاف، أعلمت الوكالة السلطات المعنية وهي تقوم باتخاذ كافة التدابير اللازمة لإزالة تلك الأجسام، من أجل المحافظة على سلامة وأمن المدرسة. وسوف تطلق الأونروا تحقيقاً شاملاً في الظروف المحيطة بهذه الحادثة».
تطرح هذه البيانات عدة تساؤلات، فمثلاً لم توضح «الأونروا»، في بيانها، من هي السلطات المعنية التي أعلمتها بوجود الصواريخ، وقد تكون هذه الجهة هي الحكومة الفلسطينية في غزة، أو تلك التي في رام الله، أو ربما سلطات الاحتلال في تل أبيب. كما لم تذكر عدد الصواريخ المكتشفة في 22 تموز، فيما ذكرت عدد الصواريخ المكتشفة (20 صاروخاً) في بيانها الصادر في 17 تموز من مكتب القدس.
إضافة إلى ذلك، لم تذكر أي مدارس وجدت فيها الصواريخ، الأمر الذي يجعل كل المدارس التابعة لـ«الأونروا» وكانت تحوي نازحين، في دائرة الاستهداف المشروعة لقوات الاحتلال، وذلك بحجة وجود صواريخ في تلك المدارس. بلغة أخرى، فإن تلك البيانات جعلت حياة أكثر من 160 ألف نازح تحت مرمى صواريخ وقذائف الاحتلال.
فعلا، بعد ساعات على إصدار البيان الثاني (22 تموز) قصفت قوات الاحتلال مدرسة إناث المغازي في مخيم المغازي للاجئين، التي لجأ إليها أكثر من 300 نازح. وفي بيان «الأونروا» الصادر بعد القصف، قالت المنظمة: «تعرضت مدرسة إناث المغازي في مخيم المغازي للاجئين للقصف بواسطة ذخيرة متفجرة يعتقد أنها أطلقت من جانب القوات الإسرائيلية». المقطع الأخير من العبارة يفيد بأن الوكالة ليست متأكدة من هوية من أطلق القذائف، وبذلك تصبح العبارة حمالة أوجه، ويمكن فهمها على أنها تبرئة لقوات الاحتلال من دم الشهداء أولاً، وأنها تلمح بطريقة مبطنة إلى أن المقاومة الفلسطينية، قد تكون قصفت الناس. ويكتمل المشهد حين يخرج الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، بتصريح يدين فيه (24 تموز) وجود الصواريخ داخل المدارس، قبل معرفته نتائج التحقيق الذي أطلقته الوكالة.
في اليوم نفسه الذي صدر فيه تصريح بان، وتحديدا في بيت حانون، التصقت أشلاء الأطفال بجدران إحدى المدارس التابعة للوكالة بعدما استهدف الاحتلال المكان، الذي كان مركز إيواء للنازحين. خمس قذائف أطلقت، في ذلك اليوم، من الدبابات المتمركزة على الحدود الشرقية لبلدة بيت حانون شمالي القطاع، باتجاه المدرسة مخلفة 20 شهيداً وأكثر من 200 جريح، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، وفضلا عن استهداف مدرسة أخرى في رفح (جنوب) في وضح النهار، كانت أخطر تلك المجازر التي حدثت في مدرسة أبو حسين، وسط مخيم جباليا (شمال)، وحصدت عشرات الشهداء والجرحى بعدما قالت الوكالة إنها أعطت إحداثيات المدرسة للاحتلال أكثر من 17 مرة حتى لا يستهدفها. وأمس، كان بان كي مون في زيارتها، ليلقي كلمات الأسى والألم بعدما رأى بعينه نتائج الاحتلال... وبيان «الأونروا».