انتقلت متابعة تطورات «التحالف الدولي» الزاعم محاربة «داعش» إلى مكان جديد. فكما في كل الأزمات والصراعات المتشعبة، والمصبوغة بطابع دولي، يطغى الحدث الأول على غيره ضمن سلسلة تتلاحق التطورات فيها، فيتشكل لدى المتابعين مربع أول يصعب الخروج منه إلى ما هو أوسع، حال عدم وجود متابعة يومية دقيقة لمجريات الأمور.

يبدو أن تلك هي الحال اليوم لشريحة واسعة من سكان دول المشرق العربي، خصوصاً أن إنشاء «التحالف»، أداة الحرب الجديدة، جاء ليكلل صراعات مستمرة لأكثر من ثلاث سنوات في سوريا، ونحو 11 عاماً على أقل تقدير في العراق، ليكون التفاعل الحالي مع الأحداث أقل حيوية مقارنة بفترات سابقة، أبرزها فترة حرب الخليج الثانية واستهداف العراق وعاصمته بغداد، أو خلال فترة الغزو عام 2003.
المفارقة أن ضعف التفاعل يترافق وسقوط مساحات جغرافية واسعة، بمجتمعاتها، في أتون صراعات متباينة الطابع، ليكون أول تداعيات ذلك الاضطرار إلى إجراء محاولة تبديل في مفهوم إدراك الأحداث السياسية العربية راهناً. فالحدث في تعريفه لم يعد ما كانه قبل أعوام، لا بل قبل أشهر. وذلك لا يقف حصراً عند حدود الواقع العربي الراهن، بل واقع عرفته مختلف الدول التي شهدت صراعات. وبالتالي يصير من الأولويات اليوم الابتعاد عن رومانسيات سياسية لا تزال تطغى على توجهات في الصحافة العربية.
تحديد نطاق تفاعل الصراعات ضمن أي مجتمع، يترافق مع السقوط النهائي لما سمّي عمليات سياسية في دول المشرق العربي، لتشهد ممارسة السياسة في تلك الدول تبدلات دخلت على تعريفها، فهي ما عادت تتم ضمن مؤسسات محددة تشمل أطرافاً ذات توجهات متباينة، بل هي تمارس في ميادين أخرى، في صور مجردة إلى حدود بعيدة. قد يشكل العراق المثال الأوضح على ذلك. فبعد الاحتلال وخلع النظام السابق، تشكلت نواة عملية سياسية طبعتها أطراف مثقلة بخلفياتها العقائدية، أو أطراف تمثل بشكل مثالي صيغة حكم طائفي أُريد للعراقيين أن تصنع مستقبلهم، ليؤمن تطور مسار تفاعلها جزءاً مما تشهده البلاد اليوم.
لا تقف الأمور عند هذا الحد. قبل أيام تميزت وكالة إخبارية عالمية (رويترز) بنشر تحقيق كان عنوانه: «نبوءات قديمة تثير حماسة الجهاديين في تنظيم الدولة الاسلامية». يعرض التحقيق في بدايته لصورة «حشد من الكفار يرفع 80 راية يواجه جيش المسلمين عند بلدة دابق السورية في ملحمة يقتل فيها العديد من المسلمين لكنهم في نهاية المطاف ينتصرون قبل أن تحل القيامة». ويشرح أن «هذه النبوءة القديمة للمسلمين السنّة الواردة في أحاديث ثابتة للنبي محمد أصبحت بمثابة نداء تعبوي للجهاديين في تنظيم الدولة الاسلامية في العراق وسوريا، خصوصاً منذ أن استولوا على دابق في آب الماضي». ويضيف أنه «مع تعرض جهاديي هذا التنظيم لقصف جوي يشنه التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لوقف تقدمهم، أصبحت دابق ذات أهمية رمزية واضحة». وينقل عن شادي حامد، وهو الخبير في «معهد بروكينغز»، أن وجود «الجهاديين» في دابق «يرفع المعنويات»، مضيفاً «يمكن القول باطمئنان إن غالبية المقاتلين (في تنظيم الدولة الاسلامية) يؤمنون بمثل هذا الكلام».
لا تقتصر الرؤى «الأخروية» (اسكاتولوجية) أو «الابوكاليبتية» على طرف واحد ضمن الصراعات التي نشهدها حالياً، بل لكل طرف ذي خلفية دينية رؤاه، الأمر الذي يفرض، بدايةً، إعادة قراءة «دنيوية» للصراعات، قبل الولوج في محاولة تعريف ماهية أي عملية سياسية في بلادنا.
وتفرض الصراعات بما تمثله ـ كما هو معروف ـ إعادة قراءة التاريخ لأي بلد أو منطقة، وإعادة كتابته من جديد انطلاقاً من أولويات مستجدة، قد يكون أهمها اليوم إعادة تعريف مفهوم الدين ضمن المجتمعات. كذلك قد تكون من الأولويات إعادة تعريف الأطراف المشاركة في صناعة هذا التاريخ، أو الذاكرة. استطراداً، اليوم وفي صورة تكتنفها الكثير من مشاهد «الاستشراق»، يقال مثلاً إن صياغة سيرة بائع جوال من الريف السوري الشرقي في شوارع مدينة كبيروت، تختصر الكثير من مسارات كتابة تاريخ بلدان المنطقة، فيما الواقع في مكان آخر يختبر مساحات تضيق رويداً رويداً.
كل ذلك يأتي في وقت تغوص فيه سوريا والعراق في مخاضات تمسك ببعض خيوطها دول إقليمية، وقد بات أيضاً التدخل البري الجديد في بلاد الرافدين قاب قوسين أو أدنى من التحقق، في وقت يتأكد فيه أن الغرق في المرويات البعيدة أصبح جزءاً من اليوميات.