رام الله | "مجموعاتٌ متكتلةٌ من الشبّان... مفرقعاتٌ وألعابٌ نارية... أضواءُ ليزر خضراء وكثير من الهتافات"، مظاهر قد تبدو احتفاليةً للوهلة الأولى، ولكن إن أمعنت النظر فستجد "جيشاً بشريا" منظما يتصدّى لقوات الاحتلال الإسرائيلي. مشهدٌ انتشر في مدن الضفة المحتلة بما فيها القدس خلال الآونة الأخيرة. منذ ما قبل العدوان على غزة، وما بعده.
وانتهى ما يمكن أن يسمى الهدوء بعدما انتفضت بلدة شعفاط (بلدة الشهيد الفتى محمد أبو خضير) في ضواحي القدس، فمنذ ذيوع خبر استشهاد ابنها هبّت كلّ الضواحي والقرى المجاورة، وكانت البلدة قد عرفت بالهدوء النسبي منذ سنوات.
في تلك المواجهات، عمد الشبان المقدسيون إلى تنظيم أنفسهم ذاتيا بعيداً عن الأحزاب والقيادات التقليدية، مشكّلين لجاناً شعبية تعود باللحظة إلى مشهد الانتفاضة الأولى. مبادراتٌ صغيرةٌ تلقى استجاباتٍ فورية من شبان المنطقة بالهجوم على جيش الاحتلال أو الدفاع عن المنطقة.
يقول أحدهم ويدعى أحمد: "كلٌّ لديه انتماؤه، لكن الموضوع أصبح جدياً وخطيراً، فنظّمنا فيما بيننا مجموعة من الدوريات تسهر كل واحدة في منطقتها، لنراقب أمن الحيّ أو البلدة، ونحبط أي محاولات خطف، ونؤمّن الحماية للشبان الآخرين".

ولعلّ ما يلفت النظر، كان الوعي الأمني، وظهر ذلك في تهشيم كاميرات المراقبة التي وضعتها بلدية الاحتلال، ولبس اللثام وتوزيع المهمات.
في إحدى المسيرات داخل مخيم شعفاط المجاور للبلدة، جرت مواجهة مباشرة مع جنود الاحتلال. أول خطوة كانت أن تحمل مجموعة من الشبّان أضواء (الليزر) وتصوبها على أعين جنود الاحتلال حتى تعيقها عن قنص المتظاهرين. بعد ذلك تبدأ حملة الألعاب النارية لتشتيت انتباه الجنود ومنعهم من التقدم، ولاسيما أن أربعة أو خمسة شبان يتولون هذه المهمة، ثم تتسلل فرقة الزجاجات الحارقة "المولوتوف" لتقذف على الجنود عن مسافة لا تتجاوز 10 أمتار. هي تكتيكات بنسق سريع وعفوي تحمل في طيّاتها الاستفادة من تجارب وندوب عديدة.
أيضا هناك شبان بادروا إلى استخدام علب الدهان "البوية" ورشقها على الجيبات الإسرائيلية حتى تعيق الرؤية على الجنود.
"من يضربنا بالنار.. فسنلقيه بالنار"، هكذا عبّر ياسر، أحد الشبان المقدسيين، عند سؤاله عن جدوى الألعاب النارية التي يلقونها على قوات الاحتلال. وتابع: "بدأ الأمر من باب الإزعاج والاستفزاز وتحول لاحقاً إلى شيء قد يؤذي، وكلّ ذلك مكتسبٌ من التجربة... يعتقلونك بعد التعرّف عليك أو بعد أن ترصدك الكاميرا... تتعلم أن تتلثم وأن تحطم الكاميرا... ينزعجون من المفرقعات التي تحرقك وأنت تلقيها عليك فتستخدم منصة خشب".
هذه الأساليب لم تبق حصرا على شعفاط، بل انتقلت إلى العيسوية، وصور باهر، وحي الطو، وسلوان والبلدة القديمة، ورافقتها أكثر من ٢٦ منطقة اشتباك في الضفة والأراضي المحتلة عام ١٩٤٨ قضى خلالها أكثر من عشرين شهيداً.
وبلدة العيسوية ومخيم شعفاط، جسّدا نموذجاً لمحاورة جديدة مع الاحتلال الاسرائيلي، وقد يعزى أهم أسباب ذلك إلى جغرافية المنطقة في كلا المكانين.
أيضا بلدة العيسوية أبدع شبابها في المواجهات، فقد توزعوا على المدخلين الشمالي والجنوبي للبلدة، فيما انتشر آخرون على طول الطريق من أجل حماية بلدتهم من أي غريب أو دخيل. ومرة تمكّنوا من تدبير كمين محكمٍ لمجموعة من المستعربين (قوات خاصة بلباس عربي) والانهيال عليهم بالضرب.
كما توفر البلدة كتلة اجتماعية حاضنة وداعمة لهذا النوع من الأعمال، وتؤمّن لهم الحماية والإيواء، وحتّى التمويه في بعض الأحيان، فلا يتذمّر أهالي البلدة عند توقيفهم من الشبّان في ساعات الليل الأخيرة لإجراء فحص أمني.
وفي الوقت الذي ابتدع فيه الشبّان، في القدس والقرى والمخيمات، نموذجاً مغايراً، جسّدت بعض مدن الضفة نهجَ الاحتجاجِ التقليدي وتوجهت إلى مناطق التماس المعتادة. في المشهد الثاني، برزت «مسيرة الـ٤٨ ألفا» التي خرجت من مدينة رام الله متجهةً إلى مخيم قلنديا، وبعد أسبوعين من الحشد والدعوات المُحتَضَنَةً من المؤسسة الفلسطينية الرسمية والقيادات التقليدية، جمعت الدعوات التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي نحو ٦ آلاف شخص إلى المسيرة.
شهود عيان أكدّوا أن المئات فقط توجهوا إلى الاشتباك مع الاحتلال في تلك الليلة، وبرغم لجوء الشبان إلى قذف الألعاب النارية والزجاجات الحارقة، فإنّ طبيعة وجغرافية المنطقة جعلتاهم صيداً سهلاً لقناصة الاحتلال من أعلى البرج العسكري أو أسفله.
ومناطق التماس المحيطة بمدينة رام الله وغيرها من مدن الضفة تعد صيدًا سهلاً للشبان والمشتبكين بحكم عُلوّ الأبراج العسكريّة في المنطقة، فضلا عن الدعوات المُسْبقة التي أمدّت قوات الاحتلال بالوقت الكافي للتجهيز والإعداد، بل ارتفعت أصواتٌ مُنددةٌ بمجموعةٍ من الشبان الذين أطلقوا النار من بين الجموع، الأمر الذي أشعل نيران الاحتلال، فباشر إطلاق الرصاص الحي عشوائيا، مسقطاً بذلك شهيداً وأكثر من ١٥٠ إصابة راوحت بين حرجة ومتوسطة وخفيفة.
هكذا لم تعد الحشود الكبيرة تستطيع تحقيق الأهداف الأكبر والأنجع، فعلى سبيل المثال، تمكّن 250 شاباً فقط من الهجوم على حاجز قلنديا العسكري في وقتٍ محددٍ، وببعض التكتيك والزجاجات الحارقة والألعاب النارية، تمكّن هؤلاء من دفع الجنود إلى مغادرة نقاطهم العسكريّة أكثر من خمس دقائق دون وقوع أيّ إصابات بين الشبّان. وهو المكان نفسه الذي قضى فيه الشهيد ومئات الإصابات بالرصاصات التي استهدفت الأرجل.