مصياف | «في الجنازات لن تجدي سوى الأطفال والعجائز. لم يبقَ لدينا شبّان»، هكذا تصف الإعلامية نغم محمد حسن، ابنة مصياف، وضع بلدتها قبيل الوصول إليها. «شباب البلدة موزعون بين شهداء ومفقودين، وعناصر مقاتلين "على طول الأرض السورية». تضيف.
في ساحة البلدة، تستقبلك صورة الشهداء الأربعة من آل العباس. عمار وعباس ومحمود ويعرب، يمثّلون حال العديد من الشبان في معظم بيوت المدينة وريفها." هذا هو حال معظم أهالي البلدة الواقعة في أقصى ريف حماه الغربي. ورغم التسليم والقناعة ورباطة الجأش التي يتحلى بها ذوو شهداء البلدة، إلا أن حسرة خفية يلحظها الزائر. وإن كان لقب مصياف هو «أم الشهداء»، فذلك يعود، أولاً، إلى اعتبارها خزاناً بشرياً موالياً ضخماً دفع عدداً هائلاً من الشهداء، كانوا سفراء تقاطروا للقتال في المناطق السورية المشتعلة.
يصعب إحصاء عدد شهداء مصياف وريفها، غير أن العدد في المدينة تجاوز المئات بين عسكري ومدني، بين تعداد سكاني يتجاوز 30 ألفاً، من أصل 200 ألف نسمة في منطقة مصياف الإدارية، بما فيها ريف البلدة ووادي العيون، فيما قرية واحدة من ريف مصياف تدعى دير ماما، فاق عدد شهدائها 39، كواحدة من عشرات القرى الغارقة في الحداد.

الفقراء يستشهدون... واللصوص يسرحون

تغرق المدينة في تأمين مستلزمات العام الدراسي. الشرفات تعجّ بحاجيات مؤن الخريف التي يتشارك في إعدادها الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة الآخذون في التناقص، في ظل المستوى المعيشي الذي يزداد سوءاً. يحتلّ أحاديثَ الناس ارتفاع الأسعار الفاحش، الذي يفوق الغلاء في العاصمة، بحجة ازدياد أعداد النازحين من حلب وريفها.
لكن المدينة استفادت اقتصادياً، أيضاً، من تردي الأوضاع الأمنية في حمص وحماه، في مرحلة سابقة، فتحولت إلى مركز تجاري وحيد وآمن قريب من الريف الحمصي. يعمل حيدر في محلّه التجاري الذي يدخل إليه يومياً العشرات من أهالي المدينة. امرأة تنتقي الخضروات، تروي ما جرى لشقيقها الذي فقد في مطار الطبقة في ريف الرقة: «أخبرنا أحد الجنود الناجين أن علاء استشهد على حاجز المطار، الذي ضربه الإرهابيون فسقط جميع عناصره بين شهيد وجريح. جندي آخر عائد من المطار أيضاً إلى قريته في ريف طرطوس، أكّد لنا أنه رآه بعد ضرب الحاجز داخل حرم المطار».
لكن في مصياف من بقي ليمارس «التشبيح» واحتكار المواد الغذائية. تزايد حركات التسلح داخل المدينة وريفها أدى إلى كثرة الشكاوى بين الأهالي، إذ بات بمقدور أي شخص الانضمام إلى «لجان الدفاع» عن المنطقة. أمرٌ خلّف مشاكل اجتماعية وأمنية كبرى، حيث ازداد قطع الطرق وحوادث السرقة والقتل، ما دفع رجال دين مصياف ومنطقتي الغاب وسلحب إلى إصدار بيان للتحذير من مغبة هذه الجرائم والمخالفات، لكن البيان لم يلقَ الصدى اللازم، بل بقيَ الوضع على حاله على طرق مصياف وجوارها.

تجمع طائفي وتجاري

العديد من سكان مصياف يعملون في الأعمال الحرة والتجارة، بالإضافة إلى الوظائف العامة، فيما يعتمد أهالي الريف على الزراعة، ولا سيما الزيتون والتبغ والخضروات.
سوق المدينة يفضي إلى قلعتها الشهيرة التي ارتبطت باسمها. تعود القلعة إلى الحقبة البيزنطية، وتطلّ على بيوت المدينة، كجارة مهيبة. سوق المدينة الصغير ليس إلا شارعاً شعبياً يتجمع فيه بعض التجار والأهالي، إذ يعد مركزاً تجارياً تتفرع عنه مفارق عدّة تتوزع فيها محال إضافية. يذكر حسن، وهو مدرّس في إحدى المدارس الثانوية، أن بعض أبناء المدينة استغلّوا، إغلاق أسواق حمص في مرحلة سابقة، وعدم حماسة سكان مصياف للخروج من منطقتهم، بهدف رفع الأسعار. «تقع المدينة إلى الغرب من حماه مسافة 45 كلم، ولم يكن التنقل محبباً في السابق، بسبب خطورة الطريق وكثرة أعمال الخطف»، يقول حسن. ويتابع: «في المدينة معمل للأحذية وآخر للسجاد، كما تمتاز مصياف بوجود مركز تدريب لجيش التحرير الفلسطيني، ما جعلها مركز تجمّع معروفا سياحياً واجتماعياً لجميع سكان سوريا».
«نحنا والمسلحين جيران»
أصعب المواجهات في الريف وأكثرها دموية في ذاكرة السكان هي ما جرى بعد مجزرة الحولة، التي اتهم المسلحون «اللجان الشعبية» باقترافها. الرد كان قاسياً في وجدان أهالي مصياف إذ هاجم مسلحو الحولة قرية عقرب المجاورة مطلع عام 2013. القرية التركمانية، باستثناء عائلة واحدة، عادت إلى القرية بعد نزوح استمر حتى دخول الجيش. وأصبحت الشاهد الأهم على «وحشية الثوار»، بحسب تعبير السيدة صباح، والدة شهيد من مصياف.
تمتد الجبهة الساخنة في ريف مصياف بدءاً من قرية قرمص حتى بعرين. حاجز قرمص هو الأشهر في المنطقة، إذ يشرف ويطبق بشكل كامل على الحولة بقراها الأربع: تلدو، وكفرلاها، وتل ذهب، والطيبة الغربية. موقع الحاجز المرتفع وقربه من سهل الحولة، كان له الدور الأكبر في حماية القرى المحيطة بالمنطقة المتمردة. يعد المسلحون السيطرة على قرمص وحاجزها مفتاح السيطرة على بلدات الجبل. وبناء عليه، تتعرض القرية لأشرس الهجمات من قبل مسلحي الحولة. يذكر خليل، وهو مزارع من القرية، أن أضرار المدنيين يومية وبالغة، بسبب القصف العشوائي العنيف والمتكرر بالصواريخ وقذائف الهاون المنطلقة من الحولة. ويصف معاناة الأهلي مع الكهرباء والمياه، إذ تواصل انقطاع الكهرباء في أكبر قرى المواجهة في مصياف 9 أشهر متواصلة. أما قرية بعرين، فما زالت محاولات المسلحين متواصلة للسيطرة عليها، باعتبارها مفتاح السيطرة على طريق عام حمص ــ مصياف، وهو ما عجزوا عنه، حتى اليوم.

«الحراك» مرّ من هنا

في العودة إلى عام 2011، بدأت هنا دعوات التظاهر ومواكبة الحراك، في بداية الأحداث، على «يد أعضاء حزب العمل الشيوعي المعارض والحزب السوري القومي الاجتماعي»، بحسب ما يؤكد معظم السكان. غير أن تلك الدعوات، «اقتصرت على تجمعات صغيرة». لم يتحمس أهالي مصياف لأية تظاهرات، خشية خروج الأمور عن السيطرة. داخل المدينة ستلفت نظرك عيادة طبيب العيون علي الشيخ حيدر، الاسم الحقيقي للوزير علي حيدر، إنما عند دخولك العيادة لن تجد ابن مصياف، رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، بسبب انشغاله بشؤون الوزارة والمصالحة خارج البلدة. في العيادة يقيم طبيب متدرب، يشرف على شؤون المرضى.