سينما غزة الزرقاءغزة – تغريد عطاالله
في ليلة من ليالي الحرب التعيسة،لا أذكر أي ليلة كانت، أظنّها الخامسة أو السادسة؟! الحقيقة لا أذكر تحديدًا، برغم أنّ الحرب علمتنا استذكار دروس الحساب التي تعلمناها في حياتنا الماضية كلها. المهم أنّي رأيت إذ رأيت ابن أخي عبّود ابن الثالثة عشرة من عمره يجلس فوق حافة الشرفة المطلّة على الشارع، كانت عيناه المدورتان جدًا تبحلقان في السماء أشد بحلقة، وكان القصف الجوّي للمنازل حينها على أشدّه. كل هذا «كوم» وجوابه على سؤالي حين سألته "شوبتعمل؟" «كوم» تاني. حيث انه أجابني بقوله، وبكل طبيعية «بتفرج»!

لم تستغرق اجابته العفوية ثانيتين، ليعود للبحلقة بالسماء او كما كان يراها «السينما الزرقاء الكبيرة»! تماما كما رأيتها بدوري على ضوء جوابه! "بتفرج"، كلمته أوقعتني أرضا من فرط الضحك، وما زاد هستيرية نوبة الضحك تلك ، سؤاله، الذي لحق بإجابته حين وجدني «اتمغص» ضحكاً. قال الصغير « شو بضحكك يا عمتي؟». "لم يكن مزاجي تلك اللحظة ميّالًا لمشاهدة فيلم من أي طراز كان، لكن الفكرة كانت أنّي لم أصدق أنّ غزة نالت أخيرًا حقها في الحصول على سينما! صحيح انها سينما مفتوحة ومكشوفة في الهواء الطلق، ومعرضة للطيران المعادي، الا انها بدون أي عوائق كانت، هنا، لا حاجة لمعابر للسفر, لا ولا لقطع التذاكر ولا العرض على الرقابة، فالكل يمكنه مشاهدة اللحظات المعروضة أولًا بأوّل لحظة بلحظة، وليس هناك سينما مشابهة لها حتى في هوليوود ذاتها.
قصف عنيف قريب من البيت وحده من دفعني للخروج من ستائر السينما الحمراء. سريعًا عادت الإذاعة تبث موجاتها من خلال هاتفي النقّال، كل شيء عاد لوتيرته الطبيعية كلحظة فعلية من لحظات الحرب، وعدت بدوري لهاتفي النقّال نستمع لموجاته المنبعثة من العالم «الخارجي». منذ ذاك الوقت أصبحت كلمة"بتفرج" تثير في الضحك أكثر من غيرها، لم يعد التعامل معها سهلًا،حتى أننّي حاولت تبديلها بمفردات أخرى كي لا يفاجؤني الضحك بمواقف محرجة. الحكاية أنّ كلمة"بتفرج" توحي للمستمع بأنّ هناك شيء ما ممتعا للمشاهدة،لكنّه قد يفاجيء بشظايا «الفيلم» تصيبه. المهم، ان هذه السينما استمرت في عرض «حرب غزة» طوال واحد وخمسين يوما !




القذائف التي حرقت سماء غزة
غزة- أماني شنينو

لن أنسى كم مرة في الحرب تأملت السماء وقلت في نفسي: لو أن قذيفة تخرقها فتنزل علينا من تلك الفجوة ربما حياة صالحة للاستهلاك الآدمي! كنت مجنونة بتفكيري يا أحمد. منذ استشهادك كلنا كنا كذلك. رائحة القتل كانت تفوح من كل ماكن. كيف بالله عليك يمكنك تجاهل الأخبار ودوي الانفجارات التي تلاحقك أينما كنت؟ لازال رأسي يحمل الكثير من القنابل الموقوتة والبكاء الهستيري المحبوس. متى يرخج؟ لا اعرف. ربما خرج على شكل نوبات هستيرية من الضحك او البكاء. لازلت في العمل أسرح في المشاهد التي عاينتها في الشوارع: البيوت وقد اصبحت كعلب الكرتون مائلة في ارتكازها على الأرض, فارغة من كل شيء. الناس التي تبحث عن .. شرائح جوالاتها الضائعة بين ركام بيت تركوه مجبرين. أتعرف يا أحمد؟ أني وبرغم انتهاء الحرب لا زلت أشم رائحة الدم في ثنايا الهواء... في نومي!
ترقب.. ترقب هي حياتنا. لا زلنا تحت تهديد الحرب في أي وقت. حتى البحر، صديقنا، تآمر معهم علينا وأغلقته الحكومة قبل أيام من بدء العدوان. أخبرونا أنه ملوث ويحمل الأمراض. البحر أول وآخر متنفس لنا أغلقوه وختموا استراحاته بالشمع الأحمر .
قل لي يا احمد؟ هل لازلت ترانا من فوق؟ تعال امشي في الشوارع. راقب الناس. راقب الأطفال. راقب وجوهنا جميعاً وحركاتنا وانفعالاتنا وغضبنا وكآبتنا. تعال وحاول أن تجلس يوماً واحداً في أي منزل هنا.. ستنتظر في العتمة الكهرباء ما لا يقل عن ثمانية عشر ساعة, ولو فكرت بالاعتكاف على ضوء شمعة ستسمع مواتير الجيران من حولك من أربع جهات ترسل موسيقاها «العذبة»، ما يجعل الطبول تدق في رأسك طوال الليل، لتنتهي بشتم نفسك و شتم «أم الوطنية» . ستفكر فعلياً في حلين لا ثالث لهما: الأول: هو السفر سريعاً قبل أن تعطب باقي حواسك في هذه الخنقة التي تدعى غزة, والثانية: محاولة ايجاد بدائل للكهرباء. هكذا، ستدفع كما يقال «دم قلبك» من أجل تشغيل ضوء ومروحة لتستطيع فقط حينها اغلاق الشبابيك على الموسيقى الخارجية!
يا أحمد.. هذه البلاد ينقصها بلاد! أضحك حين أتذكر نكتة ستي «معلهش هما أول سبعين سنة صعبين بعدين الواحد بيرتاح عالآخر».. ثم تقول «حطي بالتنكة»!.
طيب يا ستي شو قولتك ازا التنكة فاضت عشرين ألف مرة؟ وخلص كل مخزون التنكات؟!