تجارة الثياب البالية منتشرة في كل أنحاء العالم، لكن انتشارها في مخيمات الشتات الفلسطينية تحديداً له معنى آخر...يحكي لي صديقي عبد خمرة اختصاصي نظم معلومات وهندسة برمجيات وعازف العود: (البالة) هي تجربة الفقير في مقايضة تعبه ببعض المتعة، كنت أعمل لأحصل على بعض النقود التي لا تكفي.

فلم يكن سوى محل بيع الثياب البالية سامحاً لي بشراء كنزتين وجاكيت ليبقى معي نقود ما يكفي لاقتناء كتاب، لكن ليس من المكتبة التي تبيع بثمن غال، بل أذهب إلى بائعي الكتب المستعملة تحت جسر الرئيس لأحصل على كتاب مهم لن ألقاه في المكتبات أصلاً. ورويداً رويداً أصبحت هناك علاقة قوية بيني وبين (البالة)، ومرة تعرضت لظرف طارئ واضطررت إلى بيع جزء من المكتبة التي كنت أعشقها وكانت من أغلى إنجازاتي إلى بيّاعي الكتب المستعملة. وأضاف: "وهيك صرت ألبس من البالة، وصارت البالة تلبس مني".
ستستغرب أن شبان المخيم لم يستحوا يوماً من هذا الموضوع، بل على العكس لن يتردد أحدهم بإخبارك أن ما يلبسه من البالة، إن سألته.
أمين السيد، الفنان التشكيلي الفلسطيني السوري، ابن مخيم اليرموك والمصمم الكبير للديكور والملابس في الأعمال السينمائية والتلفزيونية السورية، مصمم أزياء مسلسل "التغريبة الفلسطينية" وفيلم "المتبقي" أجابني حينما سألته بخجل عمّا إذا كان قد لبس بالة سابقاً: "أكيد، فأنا من عائلة كادحة، وكان همّنا لقمة العيش أولاً، ومن ثم الكتب، طبعاً روايات وما شابه، حيث إن كتب الدراسة كانت موجودة مجاناً، ومساعدة الأهل، وأخيراً نفكر في الملابس، فأنا من عائلة كبيرة تتكون من 3 بنات وثمانية شباب، والكل تعلّم بمراحل مختلفة، فكان وضعنا لا بأس به، لكننا نستعين بملابس البالة لموازنة احتياجاتنا ولتميزها في كثير من الأحيان". أمين السيد الذي ألبس كبار فناني دمشق من إبداعه في فيلم "الليل الطويل" وفيلم "بوابة الجنة" ومسلسل "الثريا" و"خالد ابن الوليد" و"صلاح الدين الأيوبي" قد لبس البالة يوماً ما. لم لا؟
نكباتنا المتتالية أجبرت الكثير منا على اقتناء ملابس البالة لتغطي احتياجاتنا دون أن نحتاج لأحد. الثياب البالية لم تخجلنا يوماً، فالخيمة التي عمرها 66 عاماً والتي تجمعنا، قماشها أصبح بالياً ولا يصلح حتى لإعادة بيعه، لكنها ما زالت تخرّج الطبيب والمهندس والفنان والشاعر والميكانيكي. وما زالت تعلمنا أن ما نزرع به عقولنا أثمن بكثير من ملابس باريس وروما.