تونس | سعي محموم بين شمال البلاد وجنوبها، شرقها وغربها... صور و«سلفي» بالجملة مع الفقراء والمهمشين والمنسيّين طوال الثلاث سنوات الماضية. هذه هي حال مرشحي الأحزاب للانتخابات التشريعية يوم الأحد القادم. فمنذ انطلاق الحملة الانتخابية في الرابع من تشرين الأول، لم تهدأ حركة كوادر الأحزاب ومناصروها لوضع ملصقات قوائم أحزابهم في كل حيّ ودسكرة من مدن تونس، ولم يعد في البلاد حديث إلا عن المرشحين وطرائفهم وعمّا يبذلونه من غالٍ ونفيس لتسويق أنفسهم.

الأحياء الشعبية العشوائية أضحت قبلة كل مرشح للتبرك بها، وهي التي يسكن فيها أعداد كبيرة من التونسيين في شمال البلاد، وبالتالي لا يمكن تجاوزها، إذ تعتبر «وليمة انتخابية» من الأصوات لمن يستطيع السيطرة عليها وإقناع سكانها بالتصويت له. الكثير من التونسيين تنقصهم المعرفة بمحافظات البلاد وبمدنها وقراها، وبعضهم لم يكتشفها إلا بعد أن ضرب الإرهاب بعضاً منها، وبعضهم عرف جغرافية تونس من خلال تتبع أخبار زيارات مرشحي الانتخابات التشريعية والرئاسية للمدن البلاد. مرشحو الأحزاب اليوم في حراك كبير قبل أيام من موعد الانتخابات، تراهم يجولون المناطق، لا يهمهم حالة الطقس ولا صعوبة الوصول إلى بعض الأرياف لتردي البنية التحتية، وأظهروا شعوراً من التكاتف والتآخي برز فجأة في أكبر تجلياته، فما من كارثة إلا حلّوا لتعزية الأهل والإعراب عن المساندة، ساعدوا في توفير أضاحي العيد والأدوات المدرسية للأطفال، للحصول على أكبر نسب من تأييد التونسيين.
تقريباً لم يبقَ مرشح واحد لم يعرض صورة له مع رجل فقير بسيط أو امرأة مسنة عاجزة أو طفلة ريفية. إنها الحملة الانتخابية حيث كل الطرق وكل الحسابات تؤدي إلى التأثير في إرادة الناخبين واستقطابهم.
لم يبقَ مرشح واحد لم يعرض صورة له مع رجل فقير بسيط أو امرأة مسنة عاجزة

قد لا يعرف كثير من التونسيين أن هناك في عمق العاصمة حيّاً فقيراً منسياً يدعى «حي هلال»، هو أقرب للعشوائيات بكثافة سكانية عالية، لكنهم صاروا يتابعون منه الأخبار، فقد صار منبع الأحداث، تتوالى عليه الزيارات من شخصيات سياسية كانت تتجاهله سابقاً حينما كانت في الحكم أو لم تفكر قطعاً في زيارته. وقد يجوز القول إن «حي هلال» استفاد كثيراً من الحملة الانتخابية، فعلاوة على المبالغ المالية التي ينثرها المرشحون للانتخابات الرئاسية أو التشريعية يمنة ويسرة على سكانه حتى يظهروا الولاء والانبهار بهم أمام شاشات التلفزيون، أسهمت مصالح المرشحين في جعل «حي هلال» محط أنظار، وبرزت مشاكل سكانه مما يعانونه من فقر وبطالة وانحراف، وأضحى له مكان في خريطة تونس بعد أن حاول المسؤولون المتتالون على السلطة طمسه وإخماد صوته لأنه يشوش على جمال العاصمة وهدوء الأحياء الراقية المجاورة.
سليم الرياحي، مرشح حزب الاتحاد الوطني الحر للرئاسة، رجل أعمال شاب، زار حيّ هلال وحيّ التضامن (حيّ شعبي شمال العاصمة متفجر ديموغرافياً ـ يضم مليون نسمة تقريباً)، وقدم الوعود بتحسين البنية التحتية لهذه الأحياء وبالقضاء على الفقر فيها. خطاب أعجب بعضاً من سكان هذه الأحياء الذين ظنوا أنه سيصرف على الحيّ من ماله الخاص وسينقذهم من الفقر، متناسين أن صلاحيات رئيس الجمهورية وفق الدستور الجديد محدودة بدورها، ولا تتجاوز استشارته من قبل رئيس الحكومة عند تحديد السياسة العامة للدولة.
بدوره، رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، صار أكثر من رحالة، فقد جاب معظم محافظات البلاد، داعياً إلى التصويت لقوائم حركته في الانتخابات التشريعية. وأينما جلت بنظرك في شوارع مدن تونس تجد معلقات وملصقات لمرشحي «النهضة»، ولأن الحركة «ملتزمة القانون الانتخابي»، فإنها لم تستعمل المنابر ولا المساجد للدعاية لمرشحيها، بل اكتفت بنصب الخيم أمام الجوامع ودور العبادة لإقناع المصلين بالتصويت لمرشحيها. ولم تفوت «النهضة» الفرصة لمدّ يد العون للمواطنين، فالأكياس المليئة بالمساعدات أيضاً كانت في الموعد. أما الوعود الانتخابية، فتلك فصل آخر من هذا «العرض الانتخابي». فالحركة التي تولت الحكم بعد الثورة والتي لم تف بتعهداتها السابقة في انتخابات عام 2011 ولم تنفذها وهي في الحكم، قدمت وعوداً جديدة لاقت ترحيباً من البعض واستهجاناً من البعض الآخر الذين اعتبروا أنه من قبيل الحمق أن يلدغ المرء من ذات الجحر مرتين.
زعيم حزب نداء تونس، ومرشحه للرئاسة، الباجي قائد السبسي، زار بدوره منطقة «الملاسين›› غرب العاصمة، الحيّ العشوائي المعروف بكثافة سكانية عالية ونسبة إجرام وانحراف كبيرة، وعادة ما تكون زيارته محفوفة بالمخاطر. اختار الباجي أن يكون هذا الحيّ محطة من محطاته الانتخابية وفي مقدمتها.
أما محسن مرزوق، مدير الحملة الرئاسية للباجي قائد السبسي، فقد زار «زانوش» من محافظة قفصة، وهي قرية مهمشة وفقيرة. قفصة التي تحتل المراتب الأولى عالمياً في إنتاج الفوسفات، من أكثر المحافظات المحرومة في البلاد، وكانت قد شهدت انتفاضة سنة 2008 (ملحمة الحوض المنجمي) ضد نظام زين العابدين بن علي.
من المفارقات التي سجلت في الحملات الانتخابية أيضاً، أن يزور منذر الزنايدي الذي شغل العديد من المناصب في عهد بن علي محافظة القصرين التي دفعت أكبر عدد من الشهداء إبان «ثورة الياسمين»، وتُعَدّ من بين أكثر الأماكن فقراً، وتنعدم في بعض قراها أبسط المرافق الأساسية اللازمة، كالصحة والنقل.
جال الزنايدي في مركز المحافظة مترجلاً دون موكب. توقف بين الفينة والأخرى لمصافحة المواطنين وسؤالهم عن وضعهم الاجتماعي، ناثراً الوعود أينما حل، وسط دهشة الأهالي الذين لم ينسوا أن مخاطبهم كان في الأمس القريب وزيراً لبن علي وأحد رموز نظامه القمعي وفي موقع قرار ولم يقدم لهم شيئاً.
بعيداً، في جنوب تونس الشرقي، حطّ رحال موكب «حزب التحالف الديموقراطي» في قرية «العوابد» الصغيرة في محافظة صفاقس. جابت سيارات الموكب شوارع القرية الرئيسية، رافعين أعلام الحزب ومحدثين ضجة في ربوع القرية النائية الهادئة التي لم تكن يوماً في أولوية الساسة رغم حاجتها الملحة للتنمية والاعتناء ببنيتها التحتية.
أما مرشح الجبهة الشعبية، حمة الهمامي، فقد حطّ رحاله في محافظة الكاف (شمال غرب البلاد) حيث جاب شوارعها، لكن جولته لم تخل من محاولة للاعتداء عليه وعلى مرافقيه.
وعلى وقع ضجة الحملة الانتخابية وتحت عدسات الكاميرا، تتعرى أمام المرشحين ومناصريهم حقيقة واقع البلاد، أما المواطن العادي فإنه يواصل حياته العادية ولسانه حاله يقول إن هؤلاء كسابقيهم «لا صدق في الوعد ولا إخلاص في العمل».