أن تكون بائعاً للصحف في دولة تحترم الديمقراطية وحقوق الإنسان، هي مهنة عادية، لكن في دول القمع باسم الدين والقومية الزائفة تصبح هذه المهنة جريمةً تهدّد السلم الأهلي.
قدري باغدو هو مواطن كردي. ذنبُه الوحيد أنه يعمل بائع صحف في منطقة سيحان في أضنة جنوب البلاد.

البائع الذي يبلغ من العمر 46، ويعمل منذ 17 عاماً في شركة «أخبار الفرات»، كان يوزّع اليوميتين «ولات أزاديا» و«أوزغور غوندم» اللتين تصدران باللغة الكردية، عندما أقدم شخصان على إطلاق النار عليه، ثم لاذا بالفرار على دراجة نارية.
خمس طلقات استقرت إحداها في الرأس كانت كفيلة بإنهاء حياة قدري الذي توفي في أحد المستشفيات، بعد ساعات، متأثراً بجراحه.
عشرات الآلاف خرجوا في شوارع أضنة لتشييع باغدو، لفوا نعشه بالعلم الكردي وتحدّوا القوات الحكومية المتهمة بقتل الناشطين والصحافيين على الملأ وأمام الناس. حمل أصدقاء قدري صورته الكبيرة أمام مسيرة التشييع، ملوحين برايات «العمال الكردستاني»، ورددوا هتافات تستنكر جريمة قتل باغدو التي أدانتها منظمة «مراسلون بلا حدود»، واصفةً إياها بأنها صفحة سوداء في تاريخ تركيا الحديث.
تأتي هذه الجريمة في ظلّ تفويض أعطاه البرلمان للحكومة التركية يسمح لها بالتدخل العسكري في دول الجوار، إثر خطابات الرئيس التركي رجب أردوغان الرنانة ومناصرته اللفظية لمدينة عين عرب السورية ذات الغالبية الكردية.
استهداف الصحافيين والمصورين ليس جديداً على سلطات الحكم في تركيا التي لطالما صُنفت بكونها أكبر سجن للصحافيين في العالم. إلا أن جريمة قتل باغدو تندرج ضمن سلسلة من جرائم قتل موزّعي الصحف الأكراد الذين لطالما كانوا عرضةً لرماة القنابل في الطرقات أثناء قيامهم بمهماتهم اليومية.
وهذه الجرائم ليست أحداثاً عابرة، بل سياسة متّبعة من قبل الاستخبارات التركية لتضييق الخناق على الصحف الكردية وعلى الأكراد خصوصاً. فرئيس البلاد رجب طيب أردوغان، الذي أبدى انزعاجه من مواقع التواصل الاجتماعي، يخاف من أن تحمل الصحف في طياتها ما قد يهزّ عرش سلطنته الوهمية.
مهمة توزيع الصحف في تركيا، ولا سيما في جنوب شرق الأناضول، هي أشبه بتوزيع البيانات السرية تحت حكم السلطات العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر. إذ تعتبر هذه الصحف مهما كان محتواها تحريضاً وتمرداً على الدولة. كذلك، إن قتل الصحافيين وسجنهم هي سياسة ممنهجة تحت ذريعة وحدة الأراضي التركية.
واستهداف الصحافة ليس حكراً على حزب «العدالة والتنمية»، بل هو سياسة تعاقبت عليها الحكومات التركية قبل وصول تنظيم «الإخوان المسلمين» إلى الحكم في تركيا. فبين 30 أيار 1992 و14 نيسان 1994 اغتيل 8 صحافيين و19 موزعاً عاملاً في صحيفة «أزغور غوندم» الكردية، وذلك على أيدي السلطات.
ولم تكتفِ السلطات التركية بقتل الصحافيين، بل عمدت إلى حظر تلك الصحيفة عام 1994. وعملية الحظر جاءت بعد استهداف اثنين من مكاتب الصحيفة في إسطنبول وأنقرة بثلاثة انفجارات في ليلة الثاني والثالث من كانون الأول من السنة نفسها، ما أدى إلى مقتل شخص وإصابة 23 عاملاً. لكن بعد خمسة عشر يوماً كشفت الصحيفة عن وثيقة سرية موقعة من رئيسة وزراء تركيا السابقة تانسو تشيلر التي ترأست حكومة البلاد بين عامي 1993 و1996، تشير إلى تورط السلطات مباشرة بالتفجيرات.
بقيت الصحيفة الكردية محظورة إلى أن أعيد نشرها بعد 17 عاماً في نيسان 2011، بعد تغيير اسمها من «أوزغور أولكه» إلى « أوزغور غوندم»، وكتب عليها شعار «لن تبقى حقيقة في الظلام».
على الرغم من اختلاف نوع الحكم في تركيا المعاصرة، بقيت الدولة تعبّر عن السياسات القمعية، والنظرة الفوقية والقمعية للإعلام، وكأنها تقليد تركي. ورغم ذلك، ما زالت أكثر من 50 صحيفة يومية وأسبوعية تتحدى القوانين المفروضة، وتطالب بحريّة الصحافة والإعلام في دولة تدّعي الديموقراطية ومناصرة الشعوب المظلومة، في وقتٍ يقبع فيه أكثر من 77 صحافياً كردياً في السجون بعد مقتل ثلاثين منهم منذ عام 1990 حتى يومنا هذا.

*باحث في الشؤون الكردية